الحديث عن حصيلة تدريس الفلسفة بالمغرب يطرح الكثير من علامات الاستفهام بحجم المناجل، فلا العقلانية الموعودة تأسست، ولا اليقظة المأمولة تحققت، وزلزال "التفكير اللاعقلاني" تمتد تصدعاته إلى كل مناحي الحياة.. عربدة مجتمع الاحتقار (Axel. Honneth) والأهواء، والوصاية الأخلاقية، (حتى الأشرار يسكنهم نبي) نوزع بسخاء الأحكام المعيارية واللاتاريخية، نعتقد أننا "خير أمة أخرجت للناس" وأننا نمتلك علوم الأولين والآخرين الصالحة لكل زمان ومكان التي لا نمل من تمجيدها، ومعطيات الحس المشترك مقيمة لدى متعلمينا، بل حتى لدى بعض مثقفينا، ونتشدق بكون الغرب تقدم بسرقة علومنا.

ندعي امتلاك الحقيقة المطلقة النهائية والكونية، ونتعصب لإرث فقهي انتهت صلاحيته، مازال يجثم على واقع مغاير للواقع الذي أنتج فيه يعتمد مرجعا للإفتاء في الأرض والسماء، في التكنولوجيا وزرع الأعضاء والاستنساخ الوراثي..، وما تبقى من القيم يتساقط تباعا، سيادة العنف والاستهتار واللامسؤولية، وظواهر أخرى تنتظر مستشرقين يكتبون عنها ،لأن مفكرينا منشغلون بأشباه القضايا، وكلما تفاقمت مشاكلنا التربوية يتم ركوب السهل، باستيراد "الجاهز" في الاقتصاد، الصحة، القوانين، التعليم.. مع لَيِّ عنقه وتشويهه، دون تشخيص مسبق لمشاكلنا وخصوصياتنا واحتياجاتنا، مما يزيد تعميق مآسينا بدل حلها، ناهيك عن عدم الإضافة والمساهمة في الفكر الكوني.

وما دمنا بصدد الحديث عن الفلسفة، فإنها ملزمة أن تكون منفتحة تتلقى دروسها من الفكر البشري، وأن تتعقب خطواته، هذا التعقب هو ما يشكل صميم البحث الإيستيمولوجي، الذي هو جزء لا يتجزأ من الفعالية الفلسفية وهذا يوضح أهمية الإبستيمولوجيا l epislémologie، ويفسر المكانة التي تحتلها داخل النظم التعليمية في الدول المتقدمة، فرنسا مثلا التي نستنسخ برامجها التعليمية -طبعا بعد تطويع هذه البرامج- نجد من بين لجانها التربوية "لجنة الفلسفة والابستيمولوجيا"، والجمع بين الفلسفة والإبستيمولوجيا، له مغزاه الكبير ويعكس فهما لضرورة مبحث الإبستيمولوجيا، هذه اللجنة تضم مفكرين ذوي اختصاصات متنوعة تقوم بتتبع ودراسة مختلف القضايا الفلسفية والإبستتمولوجية بحثا،تنظيرا وتدريسا.

إن الأمر مختلف تماما في نظامنا التعليمي، إذ ثمة إصرار على إقصاء درس الابستيمولوجيا، بدعوى استعصائها وصعوبتها لارتباطها بالعلوم الدقيقة، وهو ادعاء باطل ينبني على التصور الوضعي التقليدي للإبستيمولوجيا الذي أصبح متجاوزا مع الثورة الإبستيمولوجية المعاصرة التي ترتبط بالفكر البشري لا بالعلوم المجردة أو العلوم الطبيعية، ومن تم يمكن أن تشتغل الإبستيمولوجيا على الفكر الأسطوري والفكر الديني والفكر السياسي والفكر العلمي... وغيرها من أنماط الفكر البشري، مع الأخذ في الاعتبار أن لكل نمط فكري شكل الابستيمولوجيا الذي يلائمه، وهذا يعني أن التصور الذي يربط الابستيمولوجيا بالعلوم الدقيقة هو واحد من بين الاختيارات الإبستيمولوجية الممكنة.

ادِعاء استعصاء الإبستيمولوجيا على فهم المتعلمين، المطالبة برأسها وإقصائها تهافت مردود، وإذا سلمنا بهذه المهاترة يجب تنقية برامجنا التعليمية من كل الدروس الصعبة بدءا بالمواد العلمية واللغات وغيرها من المواد التي تعكس حصيلتها المأزومة أزمة وانتكاسة التعليم المغربي، لكن مادامت هذه المواد غير معنية بالإقصاء من نظامنا التعليمي، بل تعتبر من مرتكزاته الأساسية، فهذا يعني تمثلا سلبيا عن الابستيمولوجيا، فحواه ومضمونه أنها مجرد ترفة فكرية يمكن التضحية بها والاستغناء عنها، والمسكوت عنه هو المطالبة برأس الفلسفة، وهذا أمر خطير ينم عن عدم الوعي بأهمية وضرورة الدرس الابستيمولوجي الذي يستطيع أن يفيد باقي المواد التعليمية عن اختلافها، مما يجعلنا نتحدث عن اضطراب في القدرات التمييزية لدى القائمين على الشأن التربوي في المغرب، يقول "غاستون باشلار Gaston Bachelard" يجب إحالة كل مرب انخفضت قدرته التمييزية على التقاعد" وإلا ما معنى الإصرار على إقصاء الإبستيمولوجيا وما مشروعيته؟

وهذا هو الإشكال الذي سأحاول الإجابة عليه في هذه المقال، وسأنطلق من فرضيتين:

- الفرضية الأولى:

الإيبستيمولوجيا مجرد ترفة فكرية يمكن الاستغناء عنها وهذا يبرر مشروعية الإقصاء.

- الفرضية الثانية:

الإيبستيمولوجيا ضرورة فكرية لا يمكن الاستغناء عنها وهذا ينفي مشروعية الإقصاء.

حتى يكون كلامنا إجرائيا دقيقا سنحاول التحقق من الفرضيتين باعتماد المقاربة الابستمولوجية الباشلارية، لكونه اشتغل بالتعليم "وكان يحب أن يصف نفسه بالتلميذ الذي لا يتوقف عن التعلم وإعادة بدء حياته الفكرية في توافق مع تقدم العلوم" وقد اشتغل في ممارسته الإبستيمولوجية على معطيات الثورة العلمية المعاصرة، واكتشف قيمها الفلسفية والتربوية الجديدة، وتبنى موقفا فلسفيا جديدا، وجدد وثوَّر المفاهيم الفلسفية التربوية، حيث نجد البعد التربوي حاضرا في معظم مؤلفاته الإبستيمولوجية، سميا وأن تجربته التعليمية أغنت وعمقت إحساسه بدور التربية وحسبنا شهادته التالية " أعرب ليون برانشفيك L. Brunschvicg ذات يوم عن دهشته لرؤيتي أولي الجانب التربوية من المفاهيم العلمية كل هذا القدر من الأهمية، فأجبته ربما كنت أستاذا أكثر مني فيلسوفا" يشير بذلك إلى شغله وظيفة أستاذ 1919 حتى سنة 1930، حين كان أستاذا للفلسفة بجامعة ديجون.

يتميز الجهاز المفاهيمي للإبستيمولوجيا البشلارية بتنوعه وثرائه، وثمة ترابط بين المفاهيم التي تؤسس ممارسة باشلار الابستيمولوجية وموقفه الفلسفي ورؤيته التربوية، ولا نجانب الصواب إذا قلنا إن الرجل كان يحمل همًّا تربويا، يقول مختتما كتابه " تكوين العقل العلمي": "لا يوجد علم إلا في مدرسة دائمة هذه المدرسة يفترض بالعلم أن يؤسسها، عندئذ ستنقلب الاهتمامات الاجتماعية انقلابا نهائيا وسوف يكون المجتمع مصنوعا لأجل المدرسة، وليس المدرسة لأجل المجتمع".

قلنا في بداية هذه المقدمة انه كلما تفاقمت مشاكلنا التربوية نستورد حلولا جاهزة، دون تشخيص مسبق لمشاكلنا وخصوصياتنا واحتياجاتنا، أليس اختيارنا للمقاربة الابستيمولوجية البشلارية تناقضا مع هذا الكلام؟

إننا نحترم القارئ ونحترم قدرته النقدية لذلك سنبدأ بالإجابة على هذا التساؤل:

- لمــاذا ابـستــيمـولـوجيـا بــاشـلار ؟

رغم وجود مفكرين مغاربة وأساتذة وباحثين أكاديميين يشتغلون بجدية، تعرف الإبستيمولوجيا وضعا مُرْبِكا في المشهد التعليمي المغربي، وسنحاول إبراز بعض تجلياته عبر مستويين.

أولا: وضع الإبستيمولوجيا في الحقل الفكري المغربي:

يمكن ملامسة هذا الوضع المقلق في حقلنا الفكري بدءا بغياب مركز مستقل للدراسات الابستيمولوجية، ولو على شاكلة أغلب مراكزنا ومعاهدنا ومؤسساتنا التي تعاني بدورها من التصدعات المختلفة، في الوقت الذي تنتشر فيه مراكز ومعاهد للدراسات الابستيمولوجة بكثرة في الدول الغربية، أيضا نلاحظ عدم تشجيع وتحفيز البحث الإبستيمولوجي، وقلة الأبحاث الإبستمولوجية وما يعتريها على قلتها من ملابسات ومفارقات، مثال على ذلك كتاب" فلسفة العلم والعقلانية المعاصرة" ، للأستاذ سالم يفوت (رحمه الله، كان قامة فكرية كبيرة) حيث يرى أن باشلار بنى موقفه الفلسفي" بترقيعه من فتات الموائد الفلسفية التقليدية ومحاولة إظهاره بمظهر الجديد" وأن الجدة الفلسفية لا وجود لها عنده، وأنه" ربما يكون قد غادر الموقع المثالي في الفلسفة، لكنه بقي لا يدري شيئا عن موقعه الجديد، بل لا يدري شيئا عن حرب المواقع في الفلسفة". غير أن الأستاذ سالم يفوت في كتابه " الفلسفة والعلم في العصر الكلاسيكي "، يتكلم بلغة بشلارية يقول: " تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه لذا فإن السلب أو النفي يخالطان فيه الحضور كما أن الاختلاف يقطن فيه الهوية"، وهو كلام باشلار الذي يستشهد به الأستاذ سالم يفوت في مؤلف آخر مشترك بينه وبين الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي يحمل عنوان "درس الإبستيمولوجيا" للإشارة الأستاذ بنعبد العالي في كتابه" بين الاتصال والانفصال" يرى أن الأستاذ يفوت لم يعط لنفسه فرصة إدراك هذه الجدة الفلسفية لأنه اقتصر على النظر إلى باشلار من المنظور الابستيمولوجي الصرف، فزج به في تاريخ الميتافيزيقا، وإذا لم يجد له مكانا في ذالك التاريخ اتهمه بالقصور والتلفيق"، ويتابع الأستاذ بنعبد العالي تعليقه على تصور الأستاذ يفوت "من أهم علامات الجدة في الابستيمولوجية البشلارية إلحاحها على الجهوية ورفضها للنسق للضم الكلي، باشلار يرفض حتى الحديث عن إبستمولوجية العلم بصيغة المفرد".

نكتفي بهذا المثال دون غيره من الأمثلة التي تعبر عن الوضع الحرِج للابستيمولوجيا في حقلنا الفكري، والذي يمكن وصفه في مجمله بالغامض والفصامي، يقول دومينيك لوكور " تحتل أعمال باشلار اليوم سواء أردنا ذلك أم لا نرد مركزا استراتيجيا في الأوضاع الراهنة فمنذ سنوات تهيمن أعماله في فلسفة العلوم، اثني عشر كتابا ألفت على امتداد ثلاثين عاما من اهتمام بالغ بالعلوم الفيزيائية المعاصرة، وعلى ما يكتب من نصوص فلسفية، وإجمالا فإن المقولات التي أنتجها باشلار في كتاباته الابستمولوجية، سواء خضعت للمناقشة أو رفضت وسواء تم تصحيحها أو فقط استخدامها فإنها حاضرة وتمارس فعلها بقوة في كل المجادلات النظرية المهمة في الوقت الراهن"، يُعبِّر هذا الكلام عن الأهمية القصوى التي يتخذها الفكر البشلاري في صيرورة الفكر الفلسفي والإبستمولوجي، نظرا لجدتها الجذرية بالمقارنة مع أعمال فلسفية أخرى سابقة عليها أو معاصرة لها من خلال القطيعة التي حققتها مع الإشكالية النظرية التي اشتغلت ضمنها فلسفات العلوم السابقة على اختلاف أنواعها والتي كانت تعين لتلك الفلسفات آفاق طرحها لمسألة المعرفة العلمية وحدود تفكيرها.

ثانيا: وضع الإبستيمولوجيا في الحقل التعليمي المغربي:

نشير بداية أن الخطاب التعليمي الرسمي ينصص على العقلانية المنفتحة والروح النقدية واليقظة الفكرية وقيم الحوار والاحترام والتسامح والاختلاف... كقيم تمثل رهانا تربويا أساسيا ومركزيا، وإذا تجاوزنا ما يثار من نقاش حول أزمة التعليم المغربي التي تعني أزمة المجتمع المغربي، وهو نقاش سياسوي مناسباتي – ندوات تربوية، أيام تكوينية، مجالس تعليمية مذكرات ...- محكوم بحرب المواقع والتسييس ومنطق الهجوم أو الاتهام لا منطق فهم، فإن ثمة فرقا كبيرا بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، خصوصا عندما يتعلق بالدرس الفلسفي، بينما ينتظر منه من إنجازات وما يتخبط فيه من مشاكل، يكفي أن نتفحص المقررات الفلسفية للتعليم الثانوي، لنقف على مفارقات عجيبة، تجسد واقع التناقض والفصام la schizophrénie الذي هو حسب تعريف بلولر Bleuler " المرض الذي يتميز بانشطار الشخصية على مستوى الخطاب والإدراك"، وبارتباط مع إشكالية موضوعنا لماذا الإصرار على إقصاء الإبستيمولوجيا؟ وكما ذكرنا في المقدمة أن الإبستيمولوجيا جزء لا يتجزأ من الفعالية الفكرية، فهي إذ تتعقب خطوات الفكر البشري، تساعدنا على فهم منطلقاته، جذوره، قوانينه وشروطه وصيرورته وسيرورته، حيث تصبح الابستيمولوجيا منظارا للتأمل والبحث الأركيولوجي، حيث تجيبنا الإبستيمولوجيا لماذا قال ديكارت أنا ولم يقلها أرسطو، وعندما نتحدث عن أزمة الفلسفة، أزمة العلم، أزمة الدين، أزمة السياسة، أزمة الفن، أزمة الصحافة...، هي في الأصل أزمات الإنسان التي يمكن للإبستيمولوجيا أن تكشف جانبا منها وتساعدنا على فهمها وأيضا المساهمة في حلها، وهذا يعني أن الإبستيمولوجيا لا تنحصر في حدود القول الفلسفي أو القول العلمي بل ترتبط بالفكر البشري الذي يشتغل بشكل شموليمما يجعلها ضرورة فكرية لا يمكن الاستغناء عنها، هذا ما لا يعكسه الدرس الفلسفي في المغرب، سواء بالثانوي التأهيلي أو والجامعة عموما، لعدم ارتباطه بإشكالات واحتياجات وخصوصيات المجتمع المغربي.

العقلانية التطبيقية وتجديد القيم التربوية:

أتى باشلار إلى الفلسفة من ميدان العلوم، وكان يريد إعطاء العلم الفلسفة التي يستحقها، وكان يحلو له أن ينعت فلسفته بمجموعة من الصفات تعبر عن ارتباطها بالثورات العلمية المعاصرة.

إذا كان العلم قد عرف خلال القرن المنصرم تطورات ابتدأت مع إعلان ماكس بلانك لفرض الكوانتم سنة 1900، وبعد خمس سنوات ظهرت نظرية النسبية الإنشتنية وهي تطورات كانت بمثابة استهلال لطريق جديد في البحث العلمي وطريق جديد بكل معاني الجدة المتمايزة عن المألوف والقديم. سيكون انقلابا في مسلمات العقل العلمي ومنظوره ورؤاه بطريقة ستجعله ممثلا لمرحلة أعلى من تطور التفكير العلمي.

فإنه في الجهة المقابلة أي الفلسفة فإن المقولات الكبرى التي كانت تنتظم خطاباتها ظلت كما هي لم يلحقها أي تغيير يذكر... فالفلسفة تشتغل وكأن العلم لا وجود له... وإذا اعتبرته موجودا، فإن الفيلسوف يلعب دور التلميذ الكسلان المتواني في مدرسة العلم المعاصر، فهو دائما متأخر عن أستاذه العالم، وحيث أنه يفعل ذلك، فإنه يظل متمسكا بحلول فلسفة قديمة لمشاكل علمية بالية. إنه يتشبث بأفكار مذهب ثابت لا يتغير، مكتفيا بتقرير أطروحات مقررة أو بتكرار إشكالات سابقة تجاوزتها الثورات العلمية إلى غير رجعة .

كان باشلار على وعي بتخلف الفلسفة عن العلم، لذلك سعى إلى إعطاء العلم الفلسفة التي يستحقها، أي الفلسفة التي تدرك بعمق جدة النظريات العلمية وتعبر عنها، وقد عرف باشلار فلسفته المناسبة للعلم المعاصر ب " العقلانية المطبقة" وهي تشير في الواقع إلى موقف باشلار الساعي إلى منح العلم المعاصر الفلسفة المطابقة له، وتتميز العقلانية المطبقة بالخصائص التالية:

1- أنها سعت إلى أن تكون فلسفة تعرب عن النتائج العلمية، دون أن تكون صادرة عن رأي فلسفي جاهز، معناه أن فلسفة باشلار لا تسعى إلى أن تفرض على العلم قيما من خارجه، ولذلك فإنه لا مكان، في نظر العقلانية المطبقة، لأي حديث يعتبر نفسه شاملا ونهائيا عن قيمة العلم. إن الخطاب حول قيمة العلم ينبغي أن يكون متجددا بتجدد القيم المعرفية لذلك نجد باشلار يؤكد بأن على الابستومولوجيا أن تكون في حالة حركة العلم.

2- إن العقلانية المطبقة تسعى إلى أن تنطبق، فالفكرة العقلانية في نظر الواقع ولكن لا قيمة لها بدون قيمة خارج علاقتها الجدلية بالواقع. فهي تصدر عن الواقع، ولكن لا قيمة لها أيضا إن لم تكن قابلة للانطباق عليه.

الفكرة العلمية هي دائما برنامج للعمل، ولا قيمة لبرنامج العمل إن لم يطبق، وإذا كان من خصائص العلم المعاصر هو السعي نحو التطبيق، فإن الفلسفة العقلية المطبقة التي تنتدب نفسها لكي تكون الفلسفة المطابقة لهذا العلم تسعى إلى أن تكتسب هي أيضا هذه الخاصية، فلا ترى لذاتها قيمة دون سعيها إلى التطبيق.

3- تتميز العقلانية المطبقة بكونها تخضع مبادئها للجدل. فإذا كانت الفكرة العقلية هي برنامج للعمل، فإن هذا لا يعني أنه يفرض ذاته على الواقع. بل إن علاقة الفكرة بالواقع جلية، فهي توجه تجاربنا على الوقائع التي نلاحظها، غير أنها لا تكتسب قيمتها المعرفية الحقيقية إلا عندما تنبث تلك التجارب ذاتها صدقها وإذا كانت العقلانية المطبقة قادرة على أن تعيد النظر في مبادئها، فإن ذلك يكسبها خاصية جديدة هي التفتح، أي التفتح على الاكتشافات العلمية الجديدة.

4- العقلانية المطبقة ليست عقلانية واحدة مطلقة تنطبق في جميع ميادين المعرفة العلمية، وفي كل مستويات المعرفة العلمية، بل أنها مجموعة من العقلانيات التي يخص كل منها مجالا من مجالات المعرفة.

والقول بضرورة تعدد العقلانيات بتعدد العلوم يجعل فلسفة باشلار عقلانية لا ديكارتية، وذلك لأن فلسفة عقلانية عامة، كالفلسفة الديكارتية، لن تستطيع في نظر باشلار أن تعكس المستويات المتنوعة العقلانية لمختلف الميادين العلمية. إن المقصود بالعقلانية هو المنهج الذي يتبعه الفكر في العلم لبلوغ حقيقة الظواهر التي يدرسها، فاختلاف الموضوعات يحتم اختلاف صور تطبيق المنهج، وليس هنالك كما تصور ديكارت منهج واحد شامل لإدراك الحقيقة في جميع العلوم ، بل أن القواعد الديكارتية لتوجيه العقل لم يبق لها أية قيمة" درامية" في الثقافة الحديثة... وإذا سلخنا عن المقالة في المنهج فتنتها التاريخية ... ظهرت لنا على مستوى الحس المشترك كقاعدة حياة عقلية وثوقية آمنة .

يسمي باشلار أيضا فلسفته العلمية ب " العقلانية المفتوحة" و"المادية العقلانية" و"العقلانية المطبقة" لأن من خصائص العلم المعاصر، هو انفتاحه على العلم نتائج العلم في علاقته بالتقنية، وبالتالي لا مجال لانغلاق العلم في فلسفة منغلقة.

سماها كذلك ب " فلسفة التجديد والتجديد والتجديد" بمعنى أن نعيد ونستأنف دائما التفكير من جديد، وان نعيد التنظيم من جديد، فهذه الفلسفة يجب أن تكون قادرة على إعادة النظر في مفاهيمها، لا أن تكون فلسفة مغلقة، وبما أن العلم في تجدد مستمر، فعلى الفلسفة أن تستمر هي الأخرى في التجدد، وتحدث باشلار لا عن عقلانية مطلقة بل عن التزام عقلاني وهي عقلانية متجددة كل صباح.

سمى باشلار فلسفته أخيرا ب " فلسفة لا "أو "فلسفة الرفض" وهنا أراد أن يعطي العلم المعاصر الفلسفة التي يستحقها، بما أن العلم المعاصر هو علم لا، علم يقول لا للعلم القديم، فأول مهمة للابستيمولوجيا هي إعطاء العلم الفلسفة القادرة على استيعاب وفهم تطورات العلم عن طريق تدشين مصالحة وتجسير الهوة الكائنة بين العلم والفلسفة.

كما أن الابستيمولوجيا مدعوة إلى " أن تبلور قيما هي قيم سيرورة الفكر العلمي في عمله الفعلي" ، وبيان دلالات الاكتشافات العلمية، وهذه القيم لا تأتي إلى العلم من الخارج، أيا كان هذا الخارج، وخصوصا الخارج الفلسفي، وإنما هي تتبلور وتتحدد داخل الممارسة العلمية ذاتها في الإطار الواقعي لمرجعيتها التاريخية النوعية، بما تعنيه هذه المرجعية من احتمال قائم ودائم لتحول تلك القيمة الجديدة لذلك يرفض باشلار للإبستمولوجي أن ينظر إلى النظريات الحالية الجديدة في ضوء الماضي، أي أن يفترض لها أصولا وأسلافا " ويمكن صياغة المسلمة الباشلارية لفلسفة القيم هذه على الشكل التالي أن الجدة قيمة والتكرار عادة، سبات للعقل كما للمخيلة... والفكر العلمي الجديد الذي صحّح القديم، يشكل بهذا الحدث ذاته قيمة مطلقة بالنسبة لهذا الأخير" .

إذن القيم الإبستميلوجية هي قيم جديدة، أفرزها العلم المعاصر والإبستيمولوجي يتابع النظريات العلمية الجديدة، ويبين ما هو الجديد في هذه النظريات، ومن داخل هذه النظريات، وهو في إبرازه لهذه القيم ينطلق من حاضر العلم، لأنه لا يمكن أن نفسر الحاضر بالماضي، لأننا إذا ما فسرنا الحاضر بالماضي، فهذا يعني أن العلم المعاصر له أصول في الماضي، ومنه يتضح لنا أن الإيبستيمولوجيا ضرورة فكرية لا يمكن الاستغناء وليست مجرد ترفة فكرية.

وبالتالي فإقصاء الإبستيمولوجيا يهدف منع الحفر الأركيولوجي في جذور الأفكار والظواهر، وعدم النبش في الطابوهات والمسكوت عنه، وأخطرها السلطة، الدين، الثروة، الكرامة، والعبودية.. باختصار الهدف من إقصاء وتهميش الدرس الإبيستيمولوجي هو إقصاء الفلسفة، وتعطيل وظيفة تحريك المياه الراكدة ورفض تجديد القيم التربوية، بُغية إعادة إنتاج الأوضاع القائمة.


 

نورالدين برحيلة