ما لم يفعله سفير فرنسا في تونس؟ إن الرجل أكثر ظهورا على الساحة الوطنية من حاكمي القصبة وقرطاج. لم يترك مكانا أو حدثا إلا وكان نجمه. كان السيد أوليفيي بوافر دارفور يقود حملة انتخابية مطولة أو انه احد حكام تونس وأكثرهم رأفة ورحمة برعيته.

لقد تجاوز هذا السفير كل الخطوط الحمراء التي تحكم عالم الدبلوماسية. أخر شطحاته زيارته للهيئة العليا للانتخابات. والسؤال ما مدلولات أن يزور سفير دولة أجنبية لهيئة عليا للانتخابات وهي بصدد التحضير لانتخابات مصيرية في تونس؟ هل جاء حريصا وناصحا لرئيس الهيئة، الذي استقبله بحفاوة، لكي يحافظ على الحياد والعدل وتكريس مبادئ الديمقراطية؟ أم جاء لغاية أخرى، لا يعلمها إلا هو؟

أحيانا قد نجد مبررا لسلوكيات هذا السفير المثير للجدل. فهو مجاز في الفلسفة، وقد يفسر ذلك جزءا من بحثه عن الغموض وطرح الإشكاليات. وقد قضى اغلب حياته في إدارة المؤسسات الثقافية، وقد يفسر هذا نزوعه إلى الاختلاط بالناس والظهور في كل المحافل. وهو كاتب مشهود له، ألّف العديد من الكتب، وقد يفسر هذا رغبته، ككل كاتب، في البحث عن مواضيع ليكتبها. إلا إن صفته الحالية كسفير لدولة تعتبر تونس ارث لها، ما بعد الاستعمار، قد يعطي أبعادا أخرى لكل تحركات هذا السفير، ولا شك في ذلك.

فرنسا ما بعد ثورة يناير أصبحت في وعي اغلب التونسيين دولة عادية. فبعد الثورة اكتشف التونسيون بان فرنسا لا زالت تحتل دولتهم، غادر جيشها في 1956، إلا إنها أبقت جيوشا من نوع أخر، أكثر إيلاما واستغلالا، وهي العقود. العقود التي سخرت لنهب ثروات البلاد، مثل الملح والبترول، إلى ما لا نهاية. وهنا بالضبط، في هذه الخانة التي توجد فيها فرنسا، كقوة معادية، يجب وضع تحركات السفير الفرنسي، السيد أوليفيي بوافر دارفور، فهو مكلف، كسفير، بمهمة المحافظة على مصالح ومكاسب بلده، أولا وأخيرا.

ولعل من نافلة القول التذكير بان كل ما ظهر من تحركات السيد السفير الفرنسي ليست سوى توجيه نظر وتركيز والهاء عن الفعل الحقيقي الذي يقوم به داخل تونس. ولا يجب أن ننسى بان المخصصات المالية للدبلوماسية الفرنسية يمثل 1.8% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يفوق ميزانية أكثر من وزارة تونسية، وعليه فان السفير مطالب بمردود يفوق ظهوره الإعلامي الكاسح على الساحة الوطنية، والأكيد بأنه بلغ فيه المنتهى.

ثمة نقطة اخرى أثارت الجدل مثلما أثاره سلوك السفير، هي صمت حكام تونس مما اقترفه هذا الأخير. فلا نواب الشعب، حكام التشريع، وضعوا حدا لما يحدث ضمن الأعراف الدبلوماسية، ولا حاكم قرطاج فعل، ولا حاكم القصبة فعل، ولا احد أخر فعل. أليس هذا اعترافا ضمنيا بان سيادة السفير الفرنسي هو حاكم من حكام تونس، ولعله الأقوى! ربما. الأيام كفيلة بالجواب.

 

د. محجوب احمد قاهري

drkahri@gmail.com