أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه أمام الجمعية الفدرالية الروسية، خطابا مدوّيا حمل في طياته رؤيته للعقيدة الروسية خلال العقدين القادمين. وبصرف النظر عن اعتبار الخطاب جزءا لحملته الرئاسية المقبلة، ثمة وقائع ملفتة تعيد أجواء السياسات الدولية إلى سباق تسلح استراتيجي نوعي، ويؤسس إلى منظومة من العلاقات الروسية الأميركية التي تخرج عن إطار تنافسي إلى إطار صراعي مفتوح؛ لكن السؤال الذي يطرح مدى قدرة موسكو على تنفيذ ذلك ومدى قدرتها على احتواء ردود الفعل الأميركية اللاحقة، إضافة على قدرة الطرفين في إدارة الأزمات الإقليمية والدولية الراهنة والتي يمكن أن تنشأ لاحقا جراء ذلك.

طغى على الخطاب أولا الطابع الشوفيني للأمة الروسية، الذي أبرزه بالقدرات الهائلة الممتلكة وبخاصة المنجز منها، ذلك في مجالات التطوير التكنولوجي العسكري، والطموحات الاقتصادية ومجالات التنمية الاجتماعية، وصولا إلى الطموحات الخارجية التي لم يخفها بوتين في خطاباته إبان مراحل حكمه السابقة.

وفي الواقع ثمة صولات وجولات من سباق التسلح بين موسكو وواشنطن. وبصرف النظر من المقاربة الإيديولوجية للحقبة السوفياتية آنذاك في هذا المجال، إلا أن كثيرا من المحددات الناظمة لعمليات التسلح لا زالت قائمة حاليا. فضمور الدور الروسي العالمي إبان العقد الأخير من القرن الماضي، سرعان ما تبدد وأطلق من جديد، لكن واقع العلاقات الأميركية الروسية خرجت عن التنافس المألوف مع اشتعال أزمات إقليمية ذات دوافع وخلفيات دولية كالأزمة السورية مثلا، التي باتت مرتعا لتجار الأسلحة بين الطرفين، وهو أمر لم تخفه القيادة الروسية حيث أعلنت أن ثمة مئتي نوع من الأسلحة الجديدة تمت تجربتها مؤخرا، إضافة إلى نشر منظومات جوية من طراز سوخوي 57 وهي من الجيل الخامس، والتي تعتبر ذات طبيعة إستراتيجية عالية الدقة، قابله نشر منظومات أميركية في غير مكان في الشرق الأوسط ومن بينها اف 35 ذات الطبيعة المماثلة.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعداه إلى الإطار النووي المقترن مع جيل جديد من الصواريخ الباليستية المجنحة القادرة على إصابة أهداف محققة أينما كان في الكرة الأرضية، وهذا ما حرص على تبيانه الرئيس الروسي في خطابه، وهو ما يعتبر ردا مباشرا على العقيدة النووية الأميركية التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب في كانون الثاني/يناير الماضي والذي اعتبر تحديا للجانب الروسي، بخاصة بعدما انسحبت واشنطن من معاهدة الحد من التسلح النووي من طرف واحد؛ وهي المعاهدة التي استهلكت وقتا وجهدا كبيرين للوصول إليها في العام 1972، والتي جددت في العام 1978، عبر اتفاقيتي سالت 1 وسالت 2.

لقد تم خرق وتجاوز هاتين الاتفاقيتين في منتصف ثمانينيات القرن الماضي عندما أطلقت واشنطن مشروع الدرع الصاروخي بمواجهة الاتحاد السوفياتي السابق، واستتبع بعدة سياسات وإجراءات تصعيدية تركت بصماتها واضحة في العلاقات البينية الروسية الأميركية.، وقد انتهج الرئيس السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف سياسات مهادنة مع واشنطن في تعبير واضح لعدم قدرة موسكو على استكمال برامجها التسليحية آنذاك. ولا يسعنا إلا استذكار قول غورباتشوف الشهير آنذاك، "نريد إطعام شعبنا الزبدة بدل الإنفاق على السلاح"؛ والمفارقة إن بوتين اليوم، يغمز من قناة الرفاهية والطموح الروسي من باب تأكيد الحضور الدولي بصرف النظر عن الإمكانات المتاحة لذلك أم لا.

ثمة دراسات ووثائق نشرت بعد حقبة الانهيار السوفياتي، مفادها ان سباق التسلح وبالأخص برنامج الدرع الصاروخي الأميركي كان سببا رئيسا لانهيار الوضع الاقتصادي السوفياتي آنذاك، اليوم ربما تمتلك موسكو من الإمكانات الوازنة لتحقيق طموحاتها، لكن استمرارية المواجهة والتنافس هل هي متوفرة أيضا؟

لا شك إن موسكو تمكنت من الانتقال النوعي في المجال الدولي في العقد الحالي، لكن السياسات الغربية المفروضة على موسكو هي مرهقة في الحد الأدنى، ذلك جراء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، ما يعني بشكل أو بآخر إمكانية التأثير في التطوير وإمكانات المواجهة المستمرة، وهو أمر مشابه إلى حد بعيد مع ظروف ثمانينيات القرن الماضي. فهل سيعيد الرئيس بوتين التجربة السوفياتية في فصولها الأخيرة؟ إن سباق التسلح يستلزم إمكانات اقتصادية ضخمة ونظم تسويق وإدارة هائلة للازمات المتفرعة والمتصلة، لاسيما وان الأجواء الدولية مشحونة بشكل مكثف في غير منطقة من العالم، الأمر الذي يتطلب دراية وواقعية شديدتين لإدارة الأزمات الدولية ومنها التي يمكن أن تنشأ عبر هذا التحشيد لسباق التسلح الجديد.

 

د. خليل حسين

استاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية