اضرب قضاة تونس، هذا الخميس، الأول من مارس، احتجاجا على ما بات الجميع يسميه "غزوة رجال الأمن" لأحدى المحاكم بمحافظة بن عروس بالعاصمة تونس. فهل هذا الإضراب كاف لردع النقابات الأمنية عن تهديد السلطة القضائية، والدولة عامة؟

يبدو واضحا بان كل إجراء أو ردة فعل قد يقوم بها القضاة سوف لن يغير من واقع امني تم فرضه فرضا منذ سنة 2011، بعد إنشاء النقابات الأمنية. هذه النقابات التي أصبحت، لدى الكثير، رديفا لشبح "دولة البوليس" التي اعتقد الجميع رحيلها مع رحيل المخلوع.

تعود أسباب "غزوة الأمنيين" لمحكمة بن عروس، حسب بيان الهيئة الإدارية لنقابة القضاة التونسيين إلى "ان مجموعة من الأمنيين تجمهروا بحرم المحكمة حاملين لأسلحتهم الوظيفية وقيامهم بتطويق المكان بالسيارات الأمنية" وذلك بسبب التحقيق مع بعض الأمنيين الموقوفين بشبهة ممارسة التعذيب. التعذيب الذي اعتقد التونسيون بأنهم تخلصوا منه نهائيا. ولا نعتقد بان هناك في تونس من مازال يقبل به، أو يبخل عن التصدي له ومحاربته.

إضراب قضاة تونس كان بدون مساندة فعلية، وبدا الأمر كأنه خلاف بين القضاة وبعض النقابات الأمنية. بعض الأحزاب أصدرت بيانات استنكار لفعل مشين صدر عن الأمنيين، بيانات تدخل في باب تسجيل الحضور، ولا يتجاوز تأثيرها وعي كاتبها. كذلك اكتفت بعض المؤسسات الحقوقية بسرد بعض التجاوزات الأمنية والتنبيه من خطر عودة دولة البوليس واستنكار ما اقترفته النقابات الأمنية في حق الوطن. الا أن ذلك كله لن يكون سندا قويا للقضاة لفرض أمنا جمهوريا على غرار ما نص عليه الفصل 19 من دستور تونس لسنة 2014.

القضاة، بمفردهم، لا يمكنهم فرض الالتزام بالقانون وردع المتجاوزين له، خاصة إذا كان المتجاوزون هم السلطة التنفيذية التي تحمل السلاح، ولا تتأخر عن استعماله للضغط من اجل مصالحها الشخصية. لن تقدر السلطة القضائية على مواجهة السلطة التنفيذية، فعمل القضاء لا يكتمل إلا بتنفيذه، وعندما تصبح أدوات التنفيذ رافضة أو معادية فلن يتغير شيئا. ويكون الخطر الأكبر حينما ينعكس الوضع، لتصبح السلطة القضائية رهنا لضغط وقرار السلطة التنفيذية، وحينما تكون هذه السلطة هي البوليس، فلا ريب بان دولة البوليس قد عادت أو هي قاب قوسين من العود.

الخوف من عودة دولة البوليس يتطلب هبة شعبية حاسمة تنتصر للدستور وللقوانين ولمكاسب ثورة يناير، حيث الأمل في تساوي كل أفراد الشعب وخضوعهم لنفس الحقوق والواجبات دون تمييز. ولا بد من ازدراء واستنكار كل مظاهر تجاوز القانون مهما كان الفاعل ومهما كان موقعه في الدولة. وما أتته بعض النقابات الأمنية من محاصرة محكمة ببن عروس يمثل خرقا واضحا وخطيرا لمفهوم الدولة في حد ذاته، ولذلك لزم استنكاره واتخاذ كافة الإجراءات ضد فاعليه.

ومن بين الإجراءات التي لابد من النظر فيها بجدية هي حل كل النقابات الأمنية، وخاصة تلك التي يتجاوز نشاطها ما يسمح به القانون بالنسبة لحاملي السلاح. ان الخطر سيكون محدقا بكل البلاد حينما يستعمل النقابي سلاحا لفرض رغبته ومصلحته الشخصية. حادثة محكمة بن عروس حدث جلل، لا بد وان يكون الحدث النهاية، الذي لن يتكرر مثله لاحقا في دولة القانون والديمقراطية.

وفي المحصلة، إضراب القضاة لن يكون له من جدوى ما لم تتخذ إجراءات كبرى، بحجم حادثة محكمة بن عروس، تنهي كل فكرة إي تحرك "مسلح" لفرض المطالب. والإجراءات الكبرى لا يجب أن تكون اقل من حل النقابات الأمنية.

 

د. محجوب احمد قاهري