هل ينهي جيل الألفية السعودي إرث جيل المؤسسين؟ هل نرى نهاية "موديل" السعودية القديمة ونشهد ميلاد طراز جديد بمكونات أكثر تطورا ومواكبة للعصر؟ هل باتت سعودية القرن العشرين عجوزا، وصار لزاما ميلاد سعودية أخرى تتسم بالقوة والقدرة على الاستمرار؟ يبدو أن الإجابة على كل الأسئلة السابقة هي "نعم". نحن نعيش مرحلة "المملكة السعودية الرابعة".

التحول العسكري في السعودية، التي لم تعرف تاريخيا بثقافة عسكرية ثابتة، يحاول أن يمنح المملكة شخصية عسكرية خارجة عن تقاليد المجتمع المحافظ. التغييرات في أعلى القيادة العسكرية كانت ضرورة لإنجاح التراكم الذي يجري في هدوء ضمن "المجتمع العسكري" بصيغته الرسمية. ثمة رؤية لعلمنة المؤسسة العسكرية السعودية ضمن إطار تجهيزها لتكون قادرة على تبنّي التطوير المخطط لها. لكي تكون المؤسسة قادرة على الاستجابة لخطط وضع الأسس لصناعة عسكرية محلية، وإن كانت صغيرة وبدائية إلى الآن، عليها أولا أن تتحلى بعقل مفتوح قابل للتعاطي مع التكنولوجيا المتسارعة اليوم.

تحرير الجيش السعودي، الذي مازال "محتلا" بالأفكار الدينية المتشددة، ليس قابلا للتطبيق إلا من خلال المرأة. فتح الباب أمام النساء للانضمام إلى الجيش يوازي في تأثيره على المجتمع تأسيس مدارس مختلطة تجمع الصبية والفتيات بجوار بعضهم البعض في حجرة دراسية واحدة.

السعودية وصلت سريعا إلى نقطة التصالح مع نفسها في علاقة الرجل بالمرأة، انطلاقا من الجيش. لكن هذا التصالح يظل منقوصا. إلى الآن طوفان الإصلاح العاتي في السعودية يده قصيرة. الإصلاح السياسي والاقتصادي ليسا كافيين لتحقيق تحول جوهري في قدر الأمة ومستقبلها. القوة المحركة لتحول المجتمعات تكمن في الإصلاح الاجتماعي، الذي لا يزال حتى الآن في بدايته.

لن تحقق السعودية هذا التحول الذي تسعى إليه إلا من خلال حصار التشدد الديني مرة واحدة وإلى الأبد. هذا ما تعرف به السعودية في العالم، وما يشكل شخصيتها في عيون السعوديين قبل غيرهم.

لعقود طويلة ظلت المملكة مركزا لنشر أكثر أشكال الفقه الإسلامي تحفظا وانغلاقا. الطبيعة اللاتنظيمية التي اتسمت بها موجة التشدد المعروفة بـ"الصحوة الإسلامية" في السبعينات من القرن الماضي جعلتها أكثر خطورة، إذ لم يكن ممكنا التحكم في تحركاتها أو مساراتها أو شراهتها في التهام كل بلدان العالم الإسلامي وغير الإسلامي.

طريق الفوضى الفكرية الكاسحة حينها لم يكن واضحا. ربما هذا هو السبب الذي نزع عنها نكهتها السياسية أو أي أهداف متعلقة بالحكم. لكن التأثير كان مدمرا أيضا.

مراحل المد الفكري القادم من السعودية كانت مختلفة في قوة تأثيرها واستعدادها لتغيير شكل المنطقة. في بعض الأحيان، تسببت هذه القوة في محاولة ملوك سعوديين، كالعاهل الراحل الملك فهد بن عبدالعزيز، لمقاومتها وتقليص قدرتها على كسب أرض جديدة. إستراتيجية هذه المقاومة وقعت في مشكلة المواجهة الفكرية الموازية دون تغيير الأمر الواقع أولا.

إذا اجتاح وباء بلدا سيظل مستوطنا بين الناس طالما اعتقدت السلطات أن مواجهته تكون عبر تطعيم الناس للوقاية منه قبل أن تبدأ بالقضاء عليه. يمكنك توزيع عقار الوقاية على الملايين، لكن عليك أن تدرك أن كل ما سيفعله العقار هو أنه سيبقي الأصحاء أصحاء. الوقاية لن تمنع وجود المرض الموجود أصلا.

لم يكن غريبا إذن قدرة الجماعات السلفية، التي توظف أفكارها الدينية من أجل التحكم بالمجتمع، على البقاء وتحصين مواقعها، والتكيّف مع مزاج السلطة الحاكمة، باختلاف البلد والثقافة المحلية.

انتهى الأمر إلى خلق قلاع سلفية محصنة في كل بلد إسلامي، كانت تعمل كسفارات للفكر السلفي المحافظ القادم من السعودية. هكذا كان العالم يرى السعودية ويحاول فهمها.

التفكير السعودي اليوم صار مختلفا. ثمة إصرار على مواجهة المشكلات بدلا من الهروب منها.

أدرك ولي العهد الأمير محمد بن سلمان طبيعة دوره وحتميته التاريخية من أجل بقاء السعودية في عالم مختلفة عن ثقافة الثلاثينات من القرن الماضي (وقت تأسيس المملكة) التي كانت تتشبث بها.

سرعة التدرج في الإصلاح الاجتماعي لا زالت مقنعة. هذا الاقتناع مدعوم بتوافق دولي حول ضرورة إعطاء البلد فرصة لاستنشاق هواء مختلف، ومنحه الوقت الكافي لصياغة ملامح شخصيته الجديدة. هذه الشخصية هي الطراز الجديد من السلعة التي كانت تمثلها السعودية في مزاد علني تعرض كل دولة فيه ما لديها ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وحضاريا.

الأمر أشبه بسباق شركة أبل على تقديم مقومات مختلفة في الطراز الجديد من هاتفها الذكي. سعودية نهاية القرن الماضي تتراجع لصالح سعودية محمد بن سلمان.

أدرك ولي العهد السعودي أن "سعوديته" لن تصبح "أيفون اكس" أمام العالم إلا عبر أكثر أنظمة تشغيل المجتمع تطورا، وهي المرأة. كل القرارات، بالسماح لها بقيادة السيارة وحضور مباريات كرة القدم والحفلات الموسيقية والمهرجانات والاحتفالات الوطنية، ستظل في طور التكوين ما لم تبدأ المواجهة مع المتشددين، سواء نجوم السلفية والإخوان المسلمين في المساجد وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، أو هؤلاء الذين يختبئون تحت مظلة المؤسسة الدينية الرسمية.

هذا الإصلاح يحتّمه حقيقة تاريخية، وهي أن طبقة الحكم في السعودية اختارت القفز من جيل المؤسسين مباشرة إلى "جيل الألفية"، متجاوزة جيل مواليد ما بعد الحرب العالمية الثانية المعروف في الغرب بـBaby Boomers هذا الجيل كان سيعطل الإصلاح ويخاطر، دون أن يدري كما اعتدنا منه دائما، بأن مستقبل السعودية ومقدراتها على المحك.

التحول العسكري جاء في وقته، خصوصا مع طول أمد الحرب في اليمن، وتأخر تحقيق انتصار حاسم على الحوثيين المدعومين من إيران، لكن التحول نحو الدين المعتدل سيكون انتصار السعودية الأكبر.

 

أحمد أبودوح