يندرج موضوع التعليم الأولي، ضمن مجال السياسة التعليمية بالمغرب في إطار مواكبة مشاريع الرؤية الاستراتيجية 2015-2030. فقد أصبح قطاع التعليم الأولي، على امتداد العقود الثلاث الأخيرة، محط اهتمام كل الفاعلين في الشأن التربوي بالمغرب، سواء تعلق الأمر بالقطاعات الرسمية أو المنظمات غير الحكومية، الوطنية منها والدولية، وخاصة منظمة اليونيسيف التي تعتبر فاعلا وشريكا هاما لوزارة التربية الوطنية في تنزيل مشاريع الارتقاء والنهوض بالطفولة الصغرى. ولم يخل إصلاح من الإصلاحات التي باشرتها الحكومات المغربية المتعاقبة، منذ تسعينيات القرن الماضي، من إشارات إلى ضرورة التعجيل بإنزال هذا الورش على أرض الواقع.

لكن وبالرغم من الالتزام الرسمي للمسؤولين عن قطاع التعليم بضرورة التعجيل بإصلاحه، والرفع من مستوى جودته، وتعميمه على كافة الأطفال المغاربة بين سن الرابعة والسادسة، إلا أن تطبيق هذه الإصلاحات لم يكتب له النجاح إلى اليوم. وهذا يعني أن مشكل التعليم الأولي، ليس بالمشكل السهل والبسيط، وإنما هو مشكل معقد ومتشابك الخيوط، يقتضي تضافر جهود جميع الفاعلين بالميدان، كما يقتضي الارتقاء به عن مختلف الصراعات والمزايدات السياسية، وربطه بمشروع مجتمعي واضح المعالم، يأخذ بعين الاعتبار مستقبل البلاد ومستقبل الأجيال اللاحقة.

وإذا كان المسؤولون عن قطاع التعليم الأولي، وباقي منظمات المجتمع المدني الوطنية والدولية المهتمة به، يعون جيدا مكانته ومنزلته في أي إصلاح للمنظومة التربوية، فإن باقي شرائح المجتمع وخاصة الآباء والأمهات وأولياء الأمور لا يزالون يحملون رؤى بل وتمثلات خاطئة حول هذه المرحلة من تعليم أبنائهم. وقد لا يترددون في حرمان أبنائهم من الاستفادة من التعليم الأولي، أو الزج بهم ضمن تعليم أولي غير مؤهل، وضمن ظروف وشروط لا تتلاءم مع ما تقره العلوم المختصة في الطفل، كما لا تتلاءم مع المقتضيات الحقوقية والدولية المتعلقة بالطفولة الصغرى، والمصادق عليها رسميا من قبل المغرب.

وقد اتفق العلماء والمهتمون في عدد من العلوم الإنسانية وخاصة السوسيولوجيا والسيكولوجيا وعلوم التربية حول الدور الأساسي والمحوري الذي تلعبه التربية ما قبل المدرسية في تحديد المسار التعليمي اللاحق للطفل، بل وفي رسم المعالم البارزة لشخصيته الراشدة. لذلك، وضعوا رهن إشارة المدرسين والمربين، مجموعة من الإنتاجات العلمية التي تسلط الضوء على خصائص ومميزات مرحلة الطفولة الصغرى، كما نبهوا إلى المطالب والاحتياجات الأساسية الخاصة بهذه المرحلة، بالإضافة إلى اقتراحهم للطرق والمناهج التي يجب اعتمادها في التعاطي مع هذه الفئة العمرية.

لا أحد يجهل أن الأطفال المغاربة الذين يلجون التعليم الأساسي النظامي، لا يمتلكون عند انطلاقتهم الدراسية نفس الحظوظ، إذ هناك تفاوت واضح بين من تلقى تعليما أوليا، وبين من حرم من هذا التعليم، وبالتالي تكون فرص نجاح هؤلاء المحرومين من التعليم ما قبل المدرسي في مسارهم الدراسي (إذا نجوا من خطر الهدر المدرسي) وبالتالي حياتهم المستقبلية غير متكافئة مع أمثالهم ممن استفادوا من هذا التعليم.

كما أن غير المستفيدين من التعليم الأولي يطرحون مشاكل حقيقية للمدرسين، الذين يجدون صعوبة كبيرة في دمجهم وإلحاقهم بزملائهم المحظوظين... ومن جهة أخرى فإن سوء تدبير ملف التعليم الأولي، وعدم انخراط الجميع في إنجاحه بالجدية اللازمة وباستشراف المستقبل في إطار رؤية مجتمعية واضحة المعالم، من شأنه أن يفسح المجال لكل من هب ودب ليعبث به.

ومن هنا ضرورة التوعية بخصوصية التعليم الأولي، باعتباره محطة حساسة وخطيرة في حياة المتعلم، من شأن تجاهلها من قبل المحيطين بالطفولة الصغرى، وخاصة الآباء والأمهات، أن ينعكس سلبا على المستقبل التعليمي للطفل، بل وعلى سمات شخصيته الراشدة.

إن بناء الأوطان يبدأ ببناء رجالاتها، وبناء شخصيات المستقبل يتحدد مبكرا (ذلك" أن شخصية الراشد تتحدد في السنوات الست الأولى من عمر الطفل "، و" أن الطفل أبو الرجل" كما يقول سيجموند فرويد).

يبدو من خلال ما سبق، أن إنقاذ الطفولة المبكرة من براثن الجهل والتسلط، والتفكير الجاد في الارتقاء بها إلى المستوى الذي يبوئها المكانة التي تستحقها، وذلك من خلال تمكينها من تعليم أولي منفتح على مستجدات علم النفس النمائي والسيكولوجي، وعلم النفس الاجتماعي.

كما أن معظم آباء وأولياء أمور هذه الطفولة، لازالوا مع الأسف متشبثين برؤية خاطئة حول أهمية وخصوصية مرحلة التعليم الأولي، بما هي مرحلة حاسمة في تحديد مسارهم الدراسي اللاحق، بل وتحديد سمات شخصيتهم الراشدة. فقد بينت النتائج أن الآباء يخلطون بين منتظرات التعليم الأولي والتعليم الابتدائي، وأنهم غير مدركين بأن التعليم الأولي هو مجرد محطة تمهيدية مؤسسة للمحطة الابتدائية، يتهيأ فيها المتعلم لمجموعة من التعلمات ما قبل المدرسية، وهذا يعني أن الآباء يسقطون تطلعات وأحلاما تفوق مستوى أطفالهم، على صبايا لازالوا في حاجة ماسة إلى اللعب واللهو والتسلية، كما تقر ذلك المرجعيات العلمية المختصة. وأكثر من ذلك فالآباء والأمهات لا يمانعون في أن يعاقب الطفل أو يعنف، أو يرهق بكثرة الواجبات المدرسية والمنزلية على حد سواء.

لذا وجب علينا جميعا الوقوف إلى جانب الطفل ضد الراشدين، وذلك ليس بالاكتفاء بتوجيه اللوم والعتاب لآباء وأولياء أمور هؤلاء الأطفال، ولكن بمحاولة تفهم وضعهم وظروفهم، والوقوف على مستوى وعيهم، ومن خلال ذلك السعي إلى تقديم المساعدة لهم عبر بلورة خطة عملية تستهدف تجاوز تمثلاتهم وتحسيسهم وتوعيتهم بخصوصيات وحاجيات أبنائهم سواء على مستوى التربية الأسرية أو على مستوى التربية ما قبل المدرسية.

والواقع أن هذه المقاربة للارتقاء بالتعليم الأولي والنهوض بالطفولة الصغرى، تبقى واحدة من بين مداخل عدة لا يمكن تحثيث الأهداف السابقة دون الاشتغال عليها.

ومن هذه المداخل:

- اختيار كفاءات متميزة تعنى بتربية الأطفال في مثل هذا السن.

- العناية بالتكوينات والتكوينات المستمرة للمربيات اللواتي يشتغلن في ميدان التعليم الأولي.

- إيلاء الأهمية القصوى لبنيات الاستقبال الخاصة بالتعليم الأولي، سواء في المدن أو القرى، تتجاوب مع احتياجات الطفل، وتراعي الشروط المنصوص عليها.

- تعزيز الشراكات القائمة والبحث عن شراكات فاعلة جديدة في ميدان النهوض بالطفولة الصغرى.

- تفعيل وأجرأة الإطار المرجعي للتعليم الأولي، والهندسة المنهاجية الخاصة به.

إرساء دعائم تعليم أولي مدمج بالعمومي، منافس للتعليم الأولي العصري الخصوصي، أملا في تحقيق تكافؤ الفرص في ارتياد تعليم أولي عصري ذي جودة، يستفيد منه الأطفال في القرى والفئات ذات الدخل المحدود.

وختاما فهذه مجموعة أوراش مفتوحة للبحث والنظر، نأمل أن ينكب على دراستها الباحثون بهدف تعميقها، أملا في الإسهام في النهوض بمنظومتنا التعليمية والتربوية بالمغرب، والارتقاء بالطفولة الصغرى.


 

مجيدة لغزال