لم أزل أتذكر تلك اللحظات وأنا أقرأ لأول مرة في القرآن آية "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ"، وكنت حينذاك صغيرا في العمر متحمسا لأن أعرف ديني. وقعت عليَ هذه الآية الكريمة كالصاعقة حيث أنها تعارضت جوهريا مع ضميري، وشعرت وقتها بزلزال فكري حيث كنت أتساءل هل المفروض عليَ كمسلم أن أقتل جارتي "طنط فوزية" والتي كانت تعيش مع زوجها الفاضل في الطابق السابع من عمارتنا في شارع شريف باشا في القاهرة وكانت شقتنا في الطابق السادس؟

كانت هذه السيدة الطيبة مسيحية مملوءة بالمحبة والخير والحنان، وأصبحت لا أدري حينذاك هل المفروض أن أقتلها لأنها ليست مسلمة؟ أم ماذا أفعل لكي أطبق ديني بحرفية؟

ذهبت إلى أحد أصدقائي السلفيين وكان يدعى "عادل سيف" وسألته عن هذه الآية فقال لي أن علينا أن نقاتل كل الكافرين، وأعطاني بعدها كتبا لأبي الأعلى المودودي تتحدث عن الجهاد وعن قتال غير المسلمين حتى يكونوا أذلاء وخاضعين تحت راية الإسلام.

لم يتقبل ضميري حينها رأي صديقي، فذهبت بعد صلاة الجمعة التالية إلى جامع الساحة القريب منا لأسأل شيخه، وكان شيخا صوفيا رائعا يدعى "الشيخ شعبان" فكان رده أن ربت على كتفي وقال لي: "يا بني أحب كل الناس وعاملهم بالحسنى وسيرضى الله عنك"، فسألته وأنا مملوء بالحماس وماذا عن الأمر الإلهي المذكور في القرآن "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ".. ماذا أفعل به؟

كثير ممن يريدون أن يتفقهوا في الدين لا يجدوا أمامهم إلا تفسيرات حرفية تدعوا إلى العنف مع غير المسلمين

فقال لي الشيخ شعبان: "يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ". وهي آية في سورة الأعراف في القرآن تتحدث، كما يرى البعض، عن أن التأويل الحقيقي للقرآن لن يعرف كاملا إلا يوم القيامة. وسأكون صادقا مع القارئ حين أقول له إنه لم يكن لدى الصبر لأنتظر حتى يوم الدين لأعرف مفهوم هذه الآية فاتبعت ـ وللأسف ـ فكر صديقي السلفي عادل لفترة من الزمان.

وباختصار شديد يلخص المشكلة، كان "عادل سيف" ـ وغيره الكثيرين ـ يدعم فكره المتشدد بالتفاسير المعروفة والفقه المتداول، في حين أن "الشيخ شعبان" كان يتكلم برأيه الشخصي ودون وجود أدلة شرعية قوية تدعمه فيما يسمى بأمهات الكتب أو "كتب التراث الإسلامي".

وهذا هو حال الكثيرين ممن يريدون أن يتفقهوا في الدين فلا يجدوا أمامهم إلا تفسيرات حرفية تدعوا إلى العنف مع غير المسلمين، ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر تفسير "ابن كثير" لهذه الآية في سورة التوبة.

الآية 5 من سورة التوبة: "فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ".

تفسير ابن كثير: "وقوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) أي من الأرض وهذا عام، وقوله: (واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) أي: لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم، والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع، وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام، ولهذا قال: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) ولهذا اعتمد الصديق ـ رضي الله عنه ـ في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال، وهي الدخول في الإسلام، والقيام بأداء واجباته".

أما تفسير القرطبي (لا فُضَ فوه!) لهذه الآية الكريمة فهو:

"قوله تعالى فاقتلوا المشركين عام في كل مشرك، واعلم أن مطلق قوله: اقتلوا المشركين يقتضي جواز قتلهم بأي وجه كان، إلا أن الأخبار وردت بالنهي عن المُثلة (أي التمثيل بجثثهم)، ومع هذا فيجوز أن يكون الصديق رضي الله عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق بالنار، وبالحجارة وبالرمي من رؤوس الجبال، والتنكيس في الآبار، تعلق بعموم الآية، وكذلك إحراق علي رضي الله عنه قوما من أهل الردة يجوز أن يكون ميلا إلى هذا المذهب، واعتمادا على عموم اللفظ والله أعلم".

والمذكورة أعلاه ليست مجرد تفسيرات شاذة بل هي تمثل ما يجده القارئ في كتب التفسير التي هيمنت لعدة قرون ولم تزل تهيمن على الفكر الإسلامي حتى عصرنا الحالي!

وبأمانة شديدة للقارئ فإن لساني ليعجز عن أن يجد وصفا لدرجة بشاعة هذه التفسيرات!

وبعد فترة طويلة من الزمان والبحث توصلت إلى أن فهم القرآن بعمق عبر درجات من الفهم والتدبر قد يأتي بمعان تختلف تماما عن بعض المعاني الظاهرية للآيات.

حين يقرأ الإنسان آية من آيات الكتاب العزيز، فإنه قد يفهمها بصورة سطحية ربما تتسبب في إضلاله عن المعنى الحقيقي المقصود منها

فحين يقرأ الإنسان آية من آيات الكتاب العزيز، فإنه قد يفهمها بصورة سطحية ربما تتسبب في إضلاله عن المعنى الحقيقي المقصود منها، في حين أنه لو تعمق في فهمها كما سنرى في المثال التالي فإنه قد يصل إلى غايتها والهدف منها ومفهومها الحقيقي الذي يتفق مع روح القرآن، فعلى سبيل المثال حين نقرأ الآية التالية:

{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}، فإن فهم هذه الآية بصورة سطحية ودون تعمق (كما استخدمها صديقي حينذاك!) قد يتسبب في ارتكاب جريمة لا تغتفر إن نتج عن ذلك الفهم قتل إنسان بريء لمجرد أن له عقيدة أخرى قد تراها شركا أو كفرا. وعلى العكس من ذلك تماما، فإن فهم الآية وتحليلها من خلال "درجات الفهم القرآني" التي سأذكرها قد ينتج عنه مفهوم يختلف بصورة مطلقة عن الفهم السطحي للآية، ولنرى هذا المثل التوضيحي لكيفية فهم هذه الآية الكريمة على خمس مستويات أو درجات:

♦ الدرجة الأولى: من المقصود بكلمة "المشركين"؟

المقصود بها فقط مشركو مكة الذين أعلنوا القتال على المسلمين الأوائل في بدء الدعوة.

♦ الدرجة الثانية: ما الدليل على تخصيص المعنى في هؤلاء المشركين؟

الدليل هو استخدام القرآن لأداة التعريف "أل" قبل كلمة مشركين وذلك يحدد المعنى في طائفة بعينها، فلو أراد القرآن تعميم المعنى لأستخدم تعبير "من كفر" بدلا من تعبير "الذين كفروا".

♦ الدرجة الثالثة: لماذا غضب الله على مشركي مكة؟

لأنهم اضطهدوا المسلمين الأوائل لأجل دينهم وطردوهم من ديارهم وعذبوهم لأنهم آمنوا بعقيدة تخالف عقيدتهم، فكما ذكر القرآن "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ" (سورة الحج).

♦ الدرجة الرابعة: ما هي الصفة التي تتصف بها أفعال مشركي مكة مع المسلمين الأوائل؟

اضطهاد أقلية في المجتمع لأجل دينها أو ما يسمى "الاضطهاد الديني".

♦ الدرجة الخامسة: ماذا نتعلم من هذا؟

ألا نضطهد أي أقلية دينية موجودة بيننا أو تعيش معنا، وإلا أصبحنا مثل كفار مكة واستوجبنا غضب الله.

وهكذا تبين لي كيف أن النظرة السطحية والحَرفية لصديقي عادل وغيره من أصحاب فكر العنف والكراهية كانت ستنتهي إلى كارثة وقتل للأبرياء، وفهمت لماذا ذكر الله في الإنجيل أن "الحرف يقتل" (أي أن الفهم الحرفي للأشياء قد يتسبب في قتل إنسان) ـ وأدركت لماذا قال القرآن "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أقفالها".

توفيق حميد