منذ زمن ليس بالقريب تخلص الأوروبيون من عقدتي الوطن والمواطنة معا. فلا خوف على الوطن ولا أحد أو شيء في إمكانه أن ينتقص من المواطنة او يهمشها أو يضيق عليها الخناق أو يفقدها شيئا من صفاتها.

الأوروبي مواطن كامل الحقوق في بلده وخارجه، لا لشيء إلا لأن تلك المواطنة كانت مرآة لاكتمال شروط وضعه البشري. وهو ما يجعل مواطنته عنصرا مكملا لمستواه الإنساني. المعادلة التي يفترض أن تسبب لنا، نحن مواطني الأوطان الغائبة حرجا كبيرا.

فبالرغم من أننا في حقيقة أحوالنا نفتقد إلى الوطن بمعناه القانوني لا يزال معظمنا يتشدق بمواطنته، باعتبارها قدرا مطلقا أو ثيابا جاهزة.

لا أحد يتساءل مثلا، كيف يمكن أن يكون هناك مواطنون، من غير أن يكون هناك وطن؟ اما أن يكون الوطن مجرد أرض فتلك كما أرى فكرة بدائية، صارت اليوم ساذجة بل وغبية بعد نشوء الدولة بمفهومها السياسي الحديث. وهو مفهوم ابتلع ما كان شائعا من المفاهيم قبله.

لكي يكون هناك مواطن ينبغي أن يكون هناك أولا وطن.

مكان الولادة. مكان الذكريات الأولى. مكان العيش الاضطراري. المكان الذي يقيم فيه الأهل والأصدقاء لن يكون وطنا بالضرورة. إلا إذا حدث الأمر بطريقة قسرية أو أملته ظروف عجز الكائن عن تغييره.

الفلسطينيون في الشتات ليس لهم وطن. هل الفلسطينيون في غزة مواطنين في فلسطين؟ أين هي فلسطين، الوطن المقصود؟ هناك أجيال من الفلسطينيين ولدت وترعرعت وتربت وتعلمت وعملت في الأردن، غير أن ازدواج الهوية لا يزال يضعها في مواجهة خلل في المصير.

تسمع جملة "أنا فلسطيني". قائلها هو في حقيقته وليس في واقعه حسب مواطن أردني. ما من شيء اسمه مواطن فلسطيني.

الهوية لفلسطينية لا تشير دائما إلى مواطنة فلسطينية.

وإذا ما كان الظرف الفلسطيني المعقد والملتبس بما انطوى عليه من الكثير من الظلم التاريخي هو المسؤول عن انتاج تلك الثنائية فإن ما انتهى إليه الفرد في بقاع عديدة من العالم العربي لا يقل سوءا في ما رشح عنه من ظلم، يكاد يكون تاريخيا هو الآخر.

قد يضحك الأغراب المطلعون على حقيقة حال العالم العربي حين يسمعون أحدهم يقول "أنا مواطن عراقي" فلا وجود حقيقي لوطن اسمه العراق بالمعنى القانوني الذي يفسر مصطلح "الوطن" ويهبه صلابة كونكريتية لا تُثلم.

هناك أكثر من مليوني نازح من العراقيين داخل العراق. اما خارجه فقد توقف العداد عن العمل منذ زمن طويل. مَن يعتبر المليونين من البشر مواطنين عراقيين فهو أما أبله أو غبي.

طبعا لا مجال للمقارنة بين مَن فقد بيته ومَن لا يزال يحتمي بسقف ذلك البيت، غير أن الواقع يقول إن الفئات السياسية الحاكمة في العراق نفسها لا تشعر براحة المواطنة النسبية أو المطلقة. صحيح أن أفرادها محميون من التشرد الذي ضرب الآخرين، غير أن حقائبهم المحزومة وجوازاتهم الأجنبية التي يحملونها معهم وعوائلهم التي تقيم في الأوطان البديلة هي تذاكر لسفر من غير عودة.

حتى بالنسبة لحكامه فإن العراق ليس وطنا. علينا أن لا نكذب على أنفسنا أو نصدق الكلام المرسل الذي يقوله البعض. وليس مصادفة أن يخلو كلام السياسيين العراقيين من مفردة الوطن. لقد تركوا تلك المفردة للهائمين الرومانسيين، ممن لا يملكون حلولا بديلة.

في العراق اليوم. الطائفة هي الوطن. القبيلة هي الوطن. العائلة هي الوطن. هذا بالنسبة للجموع التي تركت من غير غطاء قانوني. اما بالنسبة للغزاة الفاسدين فإن المال هو الوطن.

لقد اُستقبل نوري المالكي وهو زعيم مافيا الفساد في العراق حين زيارته لبيروت استقبال الزعماء الشعبيين لا لشيء إلا لأنه غطى عجز ميزانية حزب الله بالأموال التي نهبها من خزانة العراقيين.

لم تكن مواطنته العراقية قد سبقته أو لحقت به.

فحزب الله وهو أحد فروع الحرس الثوري الإيراني لا يعترف بلبنان وطنا ولا يتعامل مع المواطنين باعتبارهم مواطنين.

نحن هنا نتحدث عن مليوني إنسان لبناني وقعوا بين كماشتي حزب الله الذي احتكر تمثيلهم في وجه النظام الطائفي اللبناني. لقد انتهى بهم قدرهم إلى أن يفقدوا مواطنتهم اللبنانية بعد أن أفقد حزبهم لبنان معنى أن يكون وطنا.

في المحصلة يمكنني القول إننا في جزء كبير من العالم العربي نعيش في مرحلة ما قبل تشكل مفهوم الوطن وتبلور مفهوم المواطنة.

فالمواطنة في مفهومها الحقيقي تعني حرية الاختيار في أن تكون مواطنا في وطن، تكون بوصلته واضحة في ما تشير إليه من اتجاهات بالنسبة للجميع.

 

فاروق يوسف