الحملة الدعائية للجزائر حول التفاوض المباشر بين المغرب وجبهة الانفصال واتهام المغرب بالتلكؤ على هذا المستوى، تندرج ضمن سياق شامل لاستراتيجيتها الرامية إلى إخفاء دورها المركزي في هذا الملف.

نفى مصطفى الخلفي الناطق باسم الحكومة المغربية أن يكون المغرب قد انخرط في أي نوع من المفاوضات المباشرة مع جبهة البوليساريو التي روجت وسائل إعلام تدور في فلك الجزائر إشاعة حولها خلال المدة الأخيرة.

وإذا كان المغرب يحبذ حل مختلف النزاعات بالتفاوض، فلأنه من جنس الهدف منه حل النزاع بطرق سلمية، ولا يبادر عادة إلى استخدام السلاح بدلا من التفاوض مهما كان هذا الأسلوب شاقا ومعقدا. فإنه ينطلق من أن التفاوض ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة أساسية في التعاطي مع النزاعات.

ولأنه كذلك فهو بحاجة إلى توفر عدد من الشروط غير القابلة للتجاهل. وأول شرط جوهري لا غنى عنه أن يكون التفاوض بين قوى تملك قرارها بيدها وقادرة، بالتالي، على الحسم بخصوص سير المفاوضات بمختلف مراحلها، كما بخصوص نتائجها دون أن تكون مضطرة إلى العودة إلى صانع قرار آخر، يملك حق الفيتو وتعود إليه الكلمة الأخيرة، انطلاقا من حسابات سياسية أو استراتيجية لا علاقة لها بمن يتم الزج بهم لاحتلال مواقع بعينها في واجهة النزاع.

والواقع أن المغرب وجد نفسه منذ عقود طويلة، في موضوع أقاليمه الجنوبية في الصحراء، ضمن معادلة غريبة، حيث هو مدعو للتفاوض مع جهة لا تملك قرارها المستقل على أي مستوى من المستويات، وحيث يتم تقديم الذي يملك هذا القرار باعتباره معنيا بالنزاع، بحكم الجوار ليس إلا، رغم أن القاصي يعرف قبل الداني أن من قام باختلاق النزاع وتغذيته والإشراف اليومي على تفاصيله الدقيقة هو هذا الطرف الذي حول قضية الصحراء المغربية والنزاع الإقليمي المفتعل حولها إلى حصانه المركزي في معادلات ذات أبعاد محلية وإقليمية ودولية في آن واحد.

وفي الحقيقة فإن القيادة الجزائرية التي تقدم نفسها باعتبارها الحريصة الأولى على حق الشعوب في ممارسة حقها في تقرير المصير، مبررة بذلك موقفها المعادي للمغرب وحقه في ممارسة هذا الحق بالذات، لم تقم في الواقع إلا بتبني أطروحة الاستعمار الإسباني الأصلية في مواجهة المغرب الذي سعى على الدوام إلى استرجاع أقاليمه المغتصبة من خلال مسلسل متواصل من التفاوض مع الدولة الاستعمارية، استعاد بموجبه عددا من المناطق المحتلة (طرفاية وسيدي إيفني) قبل استعادة الأقاليم الجنوبية بعد تنظيم المسيرة الخضراء منتصف سبعينات القرن الماضي.

وليس هناك شك في أن الحملة الدعائية للجزائر حول ضرورة التفاوض المباشر بين المغرب وجبهة الانفصال واتهام المغرب بالتلكؤ، على هذا المستوى، تندرج ضمن سياق شامل لاستراتيجيتها الرامية إلى إخفاء دورها المركزي الحاسم في هذا الملف، الأمر الذي يطرح ضرورة إماطة اللثام عنه حتى يكون الرأي العام الإقليمي والدولي على بينة من حقيقة مواقف كل الأطراف المنخرطة بهذا الشكل أو ذاك في هذا النزاع الإقليمي المعمر طويلا.

انطلاقا من هذا المعطى الأساسي، وحتى ينكشف دور الجزائر على حقيقته، وليس كما يتم الترويج الدعائي له، ليس هناك بد بالنسبة للمغرب، من التمسك بالتفاوض غير المباشر، متى كان هناك تفاوض، تحت إشراف الأمم المتحدة. إذ رغم كل ما تتشدق به جبهة البوليساريو من الحرص على ممارسة حق تقرير المصير، فإنها فاقدة لكل مقومات القرار السيادي تجاه القيادة الجزائرية التي تتصرف على أساس أن نزاع الصحراء ورقة من أوراقها السياسية والاستراتيجية تجاه المغرب أولا، وتجاه أفريقيا ثانيا، وتجاه المجتمع الدولي ثالثا.

تجاه المغرب، من خلال مناوأة مساعيه في استكمال وحدته الترابية والتفرغ لقضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، علاوة على قطع كل التواصل الجغرافي السياسي مع عمقه الأفريقي عبر تشكيل دولة قزمية عازلة في أقاليمه الجنوبية.

وتجاه أفريقيا، في سياق فرض هيمنتها على مجمل القارة، لأن تحييد المغرب والعمل على عزله عن أفريقيا يفتحان أمامها المجال واسعا في محاولة فرض هذه الهيمنة الشاملة أي تحويل أفريقيا إلى نوع من حديقتها الخلفية وجزء من رصيدها الاستراتيجي على المستوى الإقليمي والقاري.

وتجاه المجتمع الدولي، لأن التحرك على الساحة الدولية على قاعدة هذا الرصيد الأفريقي يخول القيادة الجزائرية عددا من أوراق القوة في التفاوض على مختلف المستويات في أفضل الظروف، كما يقيها شر بعض النزعات العدوانية والاستعمارية الجديدة في الغرب في أسوأ الظروف، لأن كل الدول التي لديها مثل هذا النزوع ستحسب ألف حساب قبل أن تحاول القيام بأعمال ملموسة ضدها لأنها تدرك تماما أنها بذلك ستستعدي مجمل القارة الأفريقية ومختلف الدول التي لدى الجزائر فيها نفوذ لأسباب مالية أو سياسية أو استراتيجية.

ومن المؤكد أن حرمان القيادة الجزائرية من هذه الأوراق يمر عبر كشف دورها الحقيقي، ليس المعرقل لحل هذا النزاع بالطرق السياسية فحسب، وإنما أيضا دورها المحدد في تقييد حركة جبهة الانفصال ذاتها، وعدم السماح لها بأي هامش ولو ضيق لحرية الحركة، في أي مجال من المجالات، بما في ذلك على مستوى التفاوض.

إذ من شأن كشف هذا الدور الدفع ببعض التيارات التي تحاول التحرر من نير السطوة الجزائرية إلى حسم موقفها لصالح الحل السياسي، خاصة أن المغرب قد وضع على الطاولة منذ عام 2007 مبادرة الحكم الذاتي الموسع أرضية للتفاوض بغية تحقيق رغبة المجتمع الدولي، ممثلا في مجلس الأمن الدولي، الذي اعتبر أن الحل ينبغي أن يكون سياسيا بعدما خبر تعقيدات خطته لتنظيم الاستفتاء في الأقاليم المغربية الصحراوية واستحالة تنفيذها على أرض الواقع، الأمر الذي أدى إلى سحبها من التداول الدبلوماسي والسياسي. 

وهذا يعني أنه ليس ضمن معطيات واقع ملف الصحراء المغربية ما يدفع إلى الانخراط في أي مفاوضات مباشرة مع الانفصاليين، خاصة أنهم يعانون من تبعات استعادة المغرب لمقعده في الاتحاد الأفريقي وتنامي دوره في مؤسساته، بينما يتراجع وزن الاستراتيجية الجزائرية الداعمة لمشروع الانفصال كما دلت على ذلك مختلف عمليات التصويت التي شهدها الاتحاد الأفريقي منذ عودة المغرب إلى هذه المؤسسة القارية الأفريقية، وهو ما سيعرف تحولا نوعيا عندما يدشن المغرب دوره داخل مجلس الأمن والسلم الأفريقي الشهر المقبل.

حسن السوسي