سارعت الولايات المتحدة هذا الأسبوع إلى التعبير عن قلقها من انتشار مجموعة من قوات النّخبة الروسية في مصر، وتحديداً في القاعدة الجوية سيدي البَرّاني التي تبعد حوالي 100 كلم عن الحدود مع ليبيا. وهو ما حدا بالسيد سيرﮔي شايـﮔو، وزير الدفاع الروسي، إلى تكذيب الخبر. إلاّ أنّ السيد ديمتري بيسكوف، الناطق الرسمي باسم الكرملين صرّح بأنّ "تدخلاً روسيا كبيراً في ليبيا ليس ذو جدوى بالنسبة لبلده" حسب ما نقلته وكالة إتار-طاس. وهو تصريح يترك الباب مُوارَباً ليُفهم منه أن موسكو لا تؤكد وجوداً عسكرياً في مصر كما أنها لا تنفيه.

تأتي هذه التصريحات على خلفية استئناف القتال شرقَ ليبيا بين قوات الجنرال خليفة حفتر، والقوات الموالية لحكومة السّرّاج المعترف بها دولياً. وكانت هذه الأخيرة قد أعادت السيطرة على ما أصبح يعرف بالهلال النفطي يوم 4 مارس، قبل أن تفقدها عشرة أيام بعد ذلك؛ ويبدو أنّ الدعم الرّوسي للجنرال قد يكون ثمرةً لصفقة محتملة، عقدها هذا الأخير يوم 11 يناير 2017 مع وزير الدفاع الروسي، على متن حاملة الطائرات الروسية "كوزنيتسوف". ولإضفاء الشرعية على هذا التدخل المحتمل، انتقل يوم 14 مارس الجاري رئيس برلمان طبرق، السيد عقيلة صالح عيسى، إلى موسكو للقاء نائب وزير الخارجية الروسي، السيد "ميخائيل بوكدانوف"، وصرّح حينها للصحافة بأنه طلب دعماً عسكرياً من روسياً.

ولا نَنْسى ما كانت قد كشفت عنه صحيفة "لوموند" في فبراير 2016 من تواجد للقوات الخاصة الفرنسية في قاعدة "بْنِينَة" شرق بنغازي، قصد تنفيذ عمليات "سرية" فوق الأراضي الليبية، وهو ما حدا بوزير الدفاع الفرنسي إلى رفع دعوى قضائية ضدّ الصحيفة بسبب إفشاء أسرار عسكرية. أضف إلى ذلك التواجد الأمريكي والبريطاني شبه الرسمي منذ مايو 2016 تحت ذريعة محاربة "داعش". كلّ ذلك يجعل من ليبيا ساحة لتصفية الحسابات الجيوسياسية بين القوى العظمى؛ مما يزيد من إبعادها عن الحلّ الوطني ويرهن مصيرها بالقرار الأجنبي. وبذلك تتحول ليبيا، مثل سورية من قبل، إلى مجرد ورقة للضغط والمزايدة بين روسيا من جهة، والدول الأوربية والولايات المتحدة من جهة ثانية.

أمام هذه المتغيرات المتسارعة، يبدو أنّ اتفاق الصّخيرات قد تمّ إقباره لفائدة حرب دولية وقودها الفصائل الليبية؛ مما يشكل خطراً أمنياً حقيقياً على المنطقة المغاربية بما في ذلك المغرب. فمازال مصير 11 مليونَ قطعةِ سلاحٍ كانت في مخازن نظام القذافي مجهولاً؛ ومازالت وِجهة حوالي 4500 مقاتل من "داعش" غير معروفة بعد خروجهم من معقلهم مدينة سِرت في 5 ديسمبر 2016. ويزيد من تعقيد الوضع تقاطعُ مصالح شبكات تجار السلاح في الساحل والصحراء، مع مصالح شبكات الهجرة السرية وتهريب المخدرات. وإذا أضفنا عنصر قبائل الطوارق المتواجدة على طول الحدود الليبية مع الجزائر والنيجر، والتي تعلنُ تضامنها مع الطوارق في مالي الذين أعلنوا استقلال دولة الأزواد، فإنّنا نكون أمام "كوكتيل" شديد الانفجار، يوشك أن تُصيب شظاياه كلّ دول المنطقة وفي مقدمتها الجزائر. ومع ذلك يواصل جنرالات الجزائر هروبهم إلى الأمام، من خلال التصعيد العسكري الخطير مع المغرب والذي قد ينتقل إلى حرب إقليمية كما تدلّ على ذلك العديد من المؤشرات.

وباستقراء ما يجري في الساحتين السورية والأوكرانية، يبدو التدخّلُ الروسي في ليبيا مؤهلاً لمنح موسكو ثلاثة أوراق على الأقلّ في لعبة الضغط على أوربا: الأولى هي المزيد من إحكام الطّوق على مصادر الطاقة التي تغذّي أوربا، فروسيا تُزود القارة العجوز بحوالي 40% من حاجياتها؛ وبعد تدخلها في سورية وأوكرانيا باتت تتحكم في ممرات الأنابيب القائمة أو المستقبلية الآتية من آسيا الوسطى ومن الجزيرة العربية؛ وبتواجدها في ليبيا ستتحكم في 8% من واردات أوربا النفطية. أما الورقة الثانية فيمكن لروسيا انطلاقاً من ليبيا أن تصبح فاعلاً رئيساً في ملف الإرهاب الدولي الذي يتخذ من الساحل والصحراء قواعده الخلفية. ومن المُرجّح بعد سقوط دولة البغدادي في المشرق أن تتصاعد الأهمية الإستراتيجية لهذا الفضاء الصحراوي الممتد من مالي إلى القرن الإفريقي، وتتزايد جاذبيته للتنظيمات الجهادية. وأخيراً ستشكل الهجرة السرية من الدول الإفريقية جنوب الصحراء نحو أوربا ورقة يمكن لموسكو أن تَهُشّ بها على أوربا وتستعملها لربح نقاطٍ في الجولات القادمة.

أمام هذه السّماء الملبّدة بالغيوم، لا أملك إلا أن أستعيرَ بتصرّف عنوانَ كتاب السيّد المنصف المروزقي، لأقول: إنها الحرب العالمية يا مولاي! أو سمّها إن شئت حرب الحضارات كما تنبأ بذلك صامويل هانتغتون قبل 21 سنة. ولكنّها حرب تدور رحاها على أرض العرب، وتسيل فيها دماءٌ عربية دون أن يملك فيها العرب ناقة ولا جملاً.

أحمد نورالدين