يظلّ اهمّ ما في البيان الذي أصدره الديوان الملكي في المغرب والذي تضمّن قرارا للملك محمّد السادس بـ"تعيين شخصية أخرى من حزب العدالة والتنمية كرئيس للحكومة"، الالتزام الحرفي بالدستور الذي اقرّه أبناء الشعب المغربي في استفتاء شعبي في العام 2011.

بعد خمسة اشهر من تعيينه مجدّدا في موقع رئيس الوزراء، لم يستطع عبدالاله ابن كيران تشكيل حكومة. اكثر من ذلك، لم يكن في الأفق ما يشير الى امكان تشكيل مثل هذه الحكومة قريبا.

احترم محمّد السادس الدستور بادقّ التفاصيل عندما عيّن ابن كيران، بصفة كونه الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، رئيسا للحكومة مباشرة بعد اعلان نتائج الانتخابات النيابية التي أجريت في السابع من تشرين الاوّل ـ أكتوبر الماضي. حلّ الحزب الذي يتزعمه ابن كيران اوّلا في تلك الانتخابات. كان لا بدّ من تكليفه تشكيل الحكومة وهو ما اقدم عليه الملك. ولكن ما العمل عندما يفشل سياسي متمرّس مثل عبدالاله ابن كيران بمثل هذه المهمّة؟ هل مسموح بقاء البلد من دون حكومة مدّة تزيد على خمسة اشهر؟

في النهاية، يبقى الملك حارسا للدستور والمؤتمن عليه وعلى البلد كلّه وعلى كلّ مواطن مغربي. الدليل على ذلك ان غياب الحكومة لم يؤثر على الاستقرار في البلد في الأشهر الخمسة الأخيرة.

كان لا بدّ من خطوة إصلاحية أخرى تندرج في سياق الإصلاحات التي بادر اليها محمّد السادس قبل ان تداهم فوضى "الربيع العربي" المغرب قبل ست سنوات. كان خطابه في التاسع من آذار ـ مارس 2011 مؤشّرا الى مدى استيعاب العاهل المغربي لطبيعة المرحلة التي يمرّ فيها البلد والمنطقة المحيطة به. كانت الخطوات التي اقدم عليها وقتذاك دليلا على ان الهمّ الاوّل والأخير لمحمّد السادس هو حماية المغرب والمواطن المغربي.

كان ذلك، أي الهمّ الوطني، سببا كافيا ليرسم محمّد السادس في الخطاب الذي القاه في التاسع من آذار ـ مارس 2011 الخطوط العريضة للإصلاحات التي توجت بدستور خضع لاستفتاء شعبي في تموز ـ يوليو من تلك السنة.

تبرز مع قرار البحث عن بديل من ابن كيران يعمل على تشكيل حكومة ملاحظتان. الاولى ان الملك لا يزال يبحث عن رئيس للحكومة من بين قياديي الحزب الذي حلّ اوّلا في الانتخابات. وهذا يعني في طبيعة الحال انّ على الحزب الإسلامي الكبير، الذي اسمه العدالة والتنمية، البحث عن مخرج من حال الجمود التي ادخل نفسه فيها. وهذا يتطلب القيام بنقلة نوعية تأخذ في الاعتبار انّ المغرب لا يتحمّل استمرار الوضع الراهن. فاذا كانت الأحزاب السياسية، على رأسها الحزب الذي لديه العدد الأكبر من النوّاب، ارتضت الدخول في اللعبة الديموقراطية التي في أساسها احترام بنود الدستور ومواده، الاولى بهذه الاحزاب الارتقاء الى مستوى المسؤولية امام الناس العاديين. هؤلاء الناس العاديون يريدون حكومة تهتمّ بشؤونهم اليومية بعيدا عن الحسابات السياسية الرخيصة والمهاترات التي لا فائدة منها على صعيد تحسين مستوى المعيشة لدى المواطن بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية التي ينتمي اليها او المنطقة التي يقيم فيها.

امّا الملاحظة الأخرى، فهي مرتبطة بالحياة الحزبية في المغرب. هذه الحياة الحزبية عريقة وقديمة جدّا. هناك تراث حزبي في المغرب عمره عشرات السنين. كيف يمكن للأحزاب المغربية الامتناع عن الاستفادة من تجاربها والدوران في حلقة مغلقة يبدو ان حزب العدالة والتنمية ليس الوحيد المسؤول عنها وعن النتائج التي ترتبت عليها.

ثمّة امل كبير في ان يؤدي القرار الملكي بتغيير ابن كيران الى صحوة داخل الأحزاب. من متطلبات هذه الصحوة ادراك الحزاب ان الإصلاحات ليست مسألة دستور حديث فقط. الإصلاحات تعني أيضا المتابعة وممارسة حياة ديموقراطية سليمة بعيدا عن المصالح الحزبية الضيقة والمكاسب الشخصية.

الاهمّ من ذلك كلّه، ان على الأحزاب تطوير نفسها وليس الاكتفاء بالقول ان في المغرب أحزابا قديمة ويسارا ويمينا ووسطا، بعضها يميل الى العلمانية وبعض آخر يميل الى الإسلاميين. كلّ هذا جيّد من الناحية النظرية ولكن ماذا على الصعيد العملي؟

الجواب بكلّ بساطة ان على الأحزاب الارتقاء الى مستوى المرحلة الراهنة التي يعيشها المغرب. هناك تغيير نحو الأفضل على كلّ صعيد. ليس سرّا ان تطوير البنية التحتية للمملكة تسير على قدم وساق، ليس سرّا أيضا انّ المغرب في بحث مستمرّ عن تخفيف الأعباء على الطبقات الفقيرة، خصوصا عبر خلق فرص عمل للشباب ونشر ثقافة التعليم المهني وتطوير البرامج التعليمية كي يتمكن الطالب من إيجاد عمل بعد تخرّجه بدل البقاء في اسر المهن الكلاسيكية مثل الطب والهندسة والمحاماة.

هناك مفاهيم جديدة في المغرب تتعلّق بكيفية مواجهة التحديات الداخلية والإقليمية والدولية والاستفادة من الطاقة الشمسية. المغرب يلعب حاليا دورا محوريا ليس في مجال الحرب على الإرهاب ونشر الإسلام الوسطي فحسب، بل صار مدخلا أساسيا لاوروبا الى افريقيا، كما انّه مدخل مهمّ لافريقيا الى أوروبا.

ما قد يساعد الأحزاب المغربية في الارتفاع الى مستوى المرحلة هو النظر الى ما حققه المغرب أخيرا على الصعيد الافريقي. عاد المغرب الى الاتحاد الافريقي بعدما تجاوز كلّ العقبات التي وضعها خصومه في وجه هذه العودة التي كانت أيضا عودة لافريقيا الى المغرب.

هناك جهد دؤوب يقوم به الملك من اجل مزيد من التعاون والتكامل بين المغرب وافريقيا. هل يجوز ان تكون المملكة حققت كلّ هذه الانجازات فيما الأحزاب تتنافس من اجل تكريس الفراغ الحكومي؟

كان ملفتا حرص الملك على الإشادة بابن كيران وتجربته في رئاسة الحكومة في المرحلة التي سبقت الانتخابات الأخيرة. أشاد محمّد السادس بـ"روح المسؤولية العالية والوطنية الصادقة التي ابان عنها السيّد عبدالاله ابن كيران، طيلة الفترة التي تولّى خلالها رئاسة الحكومة بكلّ كفاءة واقتدار ونكران للذات".

في نهاية المطاف فضّل العاهل المغربي اتخاذ قراره من بين كلّ الاختيارات المتاحة التي يتيحها له نصّ الدستور وروحه، تجسيدا لحرصه على الديموقراطية وصيانة للمكاسب التي تحقّقت ان على صعيد العمل السياسي او على الصعيد الاقتصادي والتنموي.

هناك عين ساهرة على المغرب. لا تقبل هذه العين ايّ خروج عن خط الإصلاحات التي تحققت والتي سمحت للمغرب بتجاوز العواصف والبقاء في حال استنفار في مواجهة المتربصين به. بين هؤلاء، أولئك الذين يستهدفون وحدته الترابية مع تركيز خاص على الصحراء المغربية.

آن أوان تفكير الأحزاب المغربية بالمستقبل بدل البقاء في اسر الماضي. فكلّ خطاب يلقيه محمّد السادس يأتي بجديد. من الاهتمام برفع مستوى التعليم وتجاوز عقدة اللغات الأجنبية... الى تطوير الدار البيضاء وتحويلها الى سوق مالي عالمي، مرورا بجعل كل السفارات والقنصليات المغربية بيوتا مرحبّة بالمواطن المقيم في الخارج، هناك بحث دائم عن فتح آفاق جديدة امام المملكة وأهلها. الأكيد ان بقاء البلد من دون حكومة طوال ما يزيد على خمسة اشهر لم يكن خيارا. الأكيد أيضا انّه لم يكن بدّ من إصلاحات للإصلاحات، او في الإصلاحات، مع ما يعنيه ذلك من تأكيد عن رفض ايّ عودة الى خلف، أي لا عودة عن الإصلاحات.

 

خيرالله خيرالله