ديمقراطيتنا "العددية" دخلت في مرض مزمن..

فمن حصل حزبه على كمشة أصوات، وتم بها تصنيفه "حزبا أول"، تهيأ له أنه يستطيع أن يفعل بغيره ما يشاء، بقوة "الديمقراطية العددية"..

ولم تعد هذه "العددية" مناسبة للعصر..

- انتهى الزمن الإقطاعي!

وبلدنا أيضا، مثل بقية العالم، يتخلص شيئا فشيئا من إقطاعيين طالما عاثوا، وما زالوا يعيثون في الأرض فسادا، وهم يشرعون ويحكمون وفق أهوائهم، وينهبون خيرات البلد، ويهدونها إلى اللصوص، ويفعلون ما شاؤوا بالأغلبية الساحقة من المواطنين، وبكل التعدديات المذهبية والفكرية الأخرى..

وهؤلاء "الإقطاعيون" ستتم محاكمتهم، إن عاجلا أو آجلا..

ونحن أيضا، مثل بقية العالم، مقبلون على نوع آخر من الديمقراطية..

ديمقراطية لم نعهدها من قبل..

ونحن أيضا لم نتهيأ لها، حتى ونحن ندخل عصر الأنترنيت الفضائي الأقوى، وبصبيب أعلى..

إنها الديمقراطية العنكبوتية.. وهي على الباب!

وكل شيء في حياتنا سيتغير.. تغير جذري في كل مناحي الحياة..

الأجيال الصاعدة هي أجيال "الأنترنيت".. أجيال "الشبكة العنكبوتية".. لا تعرف إلا العالم الافتراضي..

الأفكار افتراضية..

الألعاب افتراضية..

التواصل افتراضي..

وقد لا يبقى الواقع أساسا مرجعيا.. المرجعي هو الافتراض..

ومعه يتطور العقل تطورا لم يسبق له مثيل..

الأجيال الصاعدة والقادمة ستعلم نفسها بنفسها، بواسطة الألعاب العنكبوتية.. وتتفوق علينا في كل ما نعرف..

المعرفة العالمية في طريق التطور.. تطور صاروخي، على أساس عقليات جديدة، ومفاهيم جديدة، وأخلاقيات جديدة..

و"المعتقدات الكلاسيكية" سوف تثور على كل ما هو راكد، فاسحة المجال لمفاهيم كونية جديدة.. ومن لا يتحرك، يتوقف، وينتهي، ويترك المكان لغيره.. الحركية المتواصلة هي الأساس.. هي قوام الجميع.. على قاعدة "رؤية مستقبلية"..

والجميع قد لا يعبأون بالماضي، إلا من باب "الذكريات التاريخية البشرية"..

والماضي نفسه سيكون إلى حد ما هو المستقبل، من حيث العمق الإنساني.. فالحياة إنسانية دائرية.. هي تدور.. ومداراتها تنتقل من المستقبل إلى الماضي، ومن الماضي إلى المستقبل..

وتكون الحركية فوق كل زمان، وكل مكان.. وهذه الحركية "الزمكانية" ذات رؤيا كونية شمولية..

والكل متمركز على القادم..

لقد انطلق في العالم سباق "جنوني" إلى مستقبل قد نعيش بعضه، لكن أكثره ستعيشه الأجيال البشرية القادمة..

حركية عالمية إلى غد افتراضي بلا حدود..

والغد لا يولي كبير أهمية لعقليات ماضية.. ولا لديمقراطية أكل الدهر عليها وشرب.. ولا لسياسات العبث.. ولا لأساليب تحقير الناس.. والاستهتار بالحقوق والواجبات..

كل هذا إلى زوال..

كل هذا إلى نفايات الزمان والمكان..

وعالم جديد يدخل شيئا فشيئا إلى بيوتنا، وفراشنا، وعقولنا، وقلوبنا، وأرواحنا.. وإلى رؤانا للغد القريب.. والغد البعيد..

وسيكون علينا جميعا، وبدون استثناء، أن نسبح بطريقة "تشاركية" في عوالم "افتراضية" تفرض علينا واقعا آخر: سلوكات لم نعهدها من قبل..

سلوكات مستقبلية تواجهنا بصراحة جادة وهي تقول للجميع: "أنتم يا أبناء الماضي، لم تعد أفكاركم صالحة إلا للمتاحف!"..

سيقولون عنا هذا وأكثر.. وليس في هذا أي عيب.. فهذه طبيعة التطور.. هذا منطق التطور الذي قد بدأ اكتساح حياتنا اليومية بشكل سريع.. أسرع مما نتصور..

لقد وصلنا عالما افتراضيا هو سيد العقول الحاضرة، ويقودنا إلى الغد..

العنكبوت يحكمنا.. ويوجهنا.. ويدغدغ أحلامنا..

والديمقراطية التي نتشدق بها، لن تبقى بشكلها الراهن..

لكل يوم ديمقراطية.. ولكل ساعة..

ولكل ما نبيع وما نشتري.. وكل ما هو ضروري لحياتنا اليومية..

وبشكل متواصل، نجد أمامنا استقراءات ودراسات وتحريات ونتائج استقصاءات..

ولا ديمقراطية راكدة.. الديمقراطية استنتاجات متحركة.. قرارات ومنهجية تدور وتدير، أسرع من عقولنا البشرية..

ولا تستثني أحدا.. هي من الجميع إلى الجميع..

والعقل البشري سيحسبه القادمون كالسلحفاة، إذا قورن بالعقل العنكبوتي الذي سنتبعه حينا عن رضا، وأحيانا مكرهين..

عالم غريب هو في طريقنا..

وهذا العالم الغريب نحن انخرطنا فيه.. ولكن أحفادنا، وأحفاد أحفادنا، سيختلفون عنا، وعن تصوراتنا، وسلوكاتنا، اختلافا جذريا..

بشر جديد في الطريق إلينا.. وسيقومون مقامنا..

ونكون بالمقارنة معهم، مثل سكان الكهوف، والعصور الغابرة: الطباشيرية والحجرية...

وعلينا على الأقل أن نتنبه من الآن إلى أن الديمقراطية التي ستفرض نفسها على كوكب الأرض لن تكون "ديمقراطية الأصوات العددية الانتخابية"، بل ديمقراطية "التخطيطات ذات الأبعاد الإنسانية".. تخطيطات توظف الأدمغة الآلية..

الدماغ الروبوتي سيحكم العالم..

فأي دور لنا في ديمقراطية المستقبل؟

- ديمقراطية العنكبوت!

ifzahmed66@gmail.com