يجد المرء نفسه غارقا في بحار الحزن والأسى وهو يعد هذا الكم الهائل من مخزون القابلية للحروب الهوياتية القاتلة، المستعد أصحابها، ومن يقف وراءهم، للذهاب إلى أقصى حد في معارك نحسبها جانبية أو ثانوية، حتى لا نقول وهمية، بالمقارنة مع معارك أخرى، كبرى وحقيقية، يفترض أن نتوحد لها جميعا، يدا في يد، وجنبا إلى جنب، ضد خلايا الفساد والاستبداد، وبقايا التبعية والاستعمار، النائمة واليقظة.

وهي مفارقة خطيرة أن يتابع، المغاربة ومعهم العالم كله، ما يكابده بعض أشقائهم المشارقة من مرارة الحروب الأهلية وأوجاع الصراعات الداخلية، تمزق اللحمة الوطنية الجامعة وتكاد تعصف بالبقية الباقية من الوحدة المجتمعية، ومع ذلك، يعمل بعضهم، عن قصد أو عن غير قصد، إلى محاولة إعادة إنتاجها مغربيا، من خلال استعارته لقاموسها الاحترابي، وما يؤدي إليه من استقطابات حادة، تشكل وقودا كفيلا بإيقاد نيران فتن قد لا تبقي ولا تذر.

يخطئ من يعتقد أن هذه النار، التي يعمل على اللعب بأوراقها، أنها ستحرق خصومه فقط، وأنه سيحقق مكاسب من وراء إشعال فتيلها وإذكاء نارها، فهذه النار تهدد الوطن بأكمله، ولن يستفيد منها أي طرف، لأن الجميع خاسر لا محالة، مادام الرابح الأكبر هنا هم أعداء الوطن.

يفترض أن يساعد المغاربة إخوانهم المشارقة، على تجاوز ما حل بهم من محن وفتن، بتقديم الحلول لمشاكلهم، من خلال صناعة نموذج للعيش الوطني المشترك، قابل للحياة والاستمرار، لا أن ينخرطوا في حروب كلامية وإعلامية وسياسية، يتوزعون فيها إلى أطراف متصارعة، يوظفون فيها أسوأ ما انتهى إليه هؤلاء الأشقاء من مفردات السباب وقواميس الشتائم والاحتراب، على أرض معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

هكذا، وفي الوقت، الذي راكم فيه المغرب رصيدا مهما من المثقفين الملتحمين بقضايا العصر، والمنتصرين لقضايا الحق والعدل، والذين تجاوز إشعاعهم حدود الوطن، من خلال ما أبلوه ويبلونه من بلاء حسن، في ابتكار الحلول لمختلف معضلات هذه الأمة العربية، المتعلقة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية؛ في هذا الوقت، يتجاهل البعض هذه الثروة الوطنية اللامادية، ويستدعي وجوها مشرقية لا تحسن إلا الانخراط في معارك “جاهلية”، شعارها المفضل “ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلين” !
هكذا يسيل مداد كثير حول قضايا ومشاكل مستوردة، كان يفترض أن يسيل في الكشف عن جذور الاستبداد، والتعرية على خلايا الفساد، والتأسيس لنموذج وطني ديمقراطي يحتضن نعمة الاختلاف وينبذ فتنة الاحتراب العرقي والاستقطاب الهوياتي.

لقد أصبحنا نرصد يوميا، في مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى صفحات الجرائد الورقية والإلكترونية أشكالا من التضخيم والتهويل، لقضايا معينة، وبطرق ملتوية، لا تخلو من تغليط كثير وتدليس كبير، تهدد، إذا ما استمرت، لا قدر الله، بعواقب يصعب التحكم في مساراتها ومآلاتها المجهولة.

فما إن تحدث أي مشكلة مجتمعية أو سياسية، يمكن أن تقع في أحسن العائلات، كما يقال، ويفترض استغلالها فرصة للتفكير والحوار وتبادل النقد البناء، يتم على العكس من ذلك، اتخاذها كمطية للشحذ والحشد، والتشكيك والتخوين، الذي نعتقد أن الوقت قد حان للتخفيف من حدته إلى أقصى حد ممكن، لأن استمراره سيصب في مصلحة القوى الحريصة على صب الزيت في نار الفتنة الحارقة.

إن الأزمات المفتعلة تباعا هذه الأيام، تبين ما ينتظر نخبنا المؤثرة من استحقاقات بيداغوجية وثقافية وسياسية؛ حيث على المثقفين بذل مجهودات كبيرة على طريق مواجهة ثقافة القطيع والأتباع والأشياع، التي تتغذى من النبذ والإقصاء، القائم على مبدأ “أنت لا تفكر مثلي إذن فأنت عدوي” !؛ كما ينتظر من رجال السياسة، أن يتصرفوا بمنطق رجال الدولة، ويركزوا اهتمامهم على الأولويات الوطنية في التحرر والانعتاق والديمقراطية والوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية.

لكن وبما أن مشهدنا العربي، من شرقه إلى غربه، يتميز بسلبية غير مسبوقة من طرف كثير من المثقفين ، الذين غادروا ساحة النضال الوطني إلى ساحات الاسترزاق على موائد السلطة والمال، فأصبحوا جزءا من الأزمة المستشرية في كياناتنا الوطنية، عوض أن يكونوا عقول الأمة المبتكرة لحلول لها؛ كما يعرف حالة تمييع من طرف “سياسيين” من الدرجة الدنيا، ولا علاقة لهم بالسياسة، كفن نبيل لمعالجة أمراض الواقع، بل هم يشكلون جزءا لا يتجزأ من أمراضه المزمنة والمتعفنة.

أمام هذه الأجواء لم يتبق لنا سوى التعويل على أولئك العقلاء، على قلتهم، الذين تنادوا دائما إلى الكلمة، التي تعد أعز ما يطلب عند عرب هذه الأيام وهي الوطن، والالتفاف حول مشروع الوطن، المتجاوز للقبيلة والطائفة، التي تجر أقطارا شقيقة إلى المعارك الغلط، التي لا تبقي ولا تذر. والتي لا يستفيد منها إلا أعداء الوطن، مما وجب معه دق ناقوس الخطر، الذي نرفع معه الصوت عاليا قائلين: علينا أن نختار بين العيش سويا في الوطن أو الاستسلام لجحيم الفتن.

عبد النبي الحري