الحرية” كانت وما تزال عشق الإنسان وهيامه، كانت محل انجذابه الفكري والنفسي والشعوري، في كل الحقب والأزمان. ولكن على طول التاريخ وعرضه، لم يستطع الإنسان تحديد مفهومها/مفاهيمها، أو الإجابة عن أسئلتها الفلسفية والدينية، السياسية/الحقوقية، أو بتعبير أكثر صحة ودقة، لم يستطع الاتفاق على مفاهيمها المتشابكة والمتداخلة. فطيلة التاريخ الإنساني، طرحت مسألة الحرية، على أنها الحاجة الحيوية للإنسان، لمواجهة أخطار الحياة المختلفة، وعلى أنها “الباب الواسع” لانتقال الإنسان إلى العلم والمعرفة… ولكن مع ذلك مازال مفهوم هذا المصطلح محل انجذاب وخلاف واختلاف، بين المثقفين والسياسيين والفلاسفة والعلماء، في كل الديانات والإيديولوجيات والأنظمة… وفي كل الأزمان.

و أسئلة الحرية كثيرة :

هل هي تحطيم كل الطواغيت؟

هل هي إلغاء كل الطابوهات؟

هل هي الأمن على النفس والمال والإرث، أم هي حرية الرأي و التعبير، وحرية 

التفكير والاختيار والاعتقاد وباقي الحريات المرتبطة بقيم حقوق الإنسان ودولة القانون…؟

هل هي إطلاق تصرف الإنسان في ذاته وكسبه، مع أمنه على نفسه وعرضه وماله، 

أم هي مساواته مع أبناء جنسه في الرأي والحكم والسلطة…؟

هل هي انعدام القيود القمعية والزجرية، أم هي نقيض العبودية والتبعية…؟

هل هي استقلال الإنسان عن أي شيء، أم هي القدرة على التصرف في كل شيء…؟

هل هي الكشف الحر عن القدرات الذاتية والفكرية، أم هي إثبات الوجود والحضور 

والتعبير عن الإرادة الشخصية؟.

خارج هذه الأسئلة، التي لا يدعى هذا المقال القدرة على الإجابة عنها، تبقى الحرية في نظر العديد من الفلاسفة والمفكرين، هي عنوان الحياة، هي الحقيقة الثابتة للإنسان، وهي الجزء الأكبر من وجوده، والحظ الأوفر من إنسانيته، فهي في نظر العديد منهم، تتمدد وتأخذ حجمها التاريخي والفكري والديني والنفسي، حسب ظروف الأمم والشعوب الموضوعية، المكانية والزمانية والحضارية. فالحرية التي تترابط حولها، قيم الدين والسياسة والأخلاق والفلسفة، لا تطاوع على تشكيلها في وحدة نهائية، بقدر ما تطاوع على تنسيقها في فضاءات وتيارات، تلتقي عند فترات معينة، أو حالات معينة، وجميعها لا ترقى إلى تحديد مفاهيمها، وجميعها مسكونة برغبة التخلص من أشياء أغلبها لا محدود في النفس، وربما في الزمان والمكان.

هل يعني ذلك، أن الحرية فكرة وهمية…؟

هل هي خاصية الإنسان، باعتباره مسؤول عن نفسه وعن حريته،؟ أم هي ذلك الشيء الذي يجب أن يكون، ولم يتحقق بعد…؟

إسلاميا، حظيت مسألة الحرية باهتمام الأولين والآخرين، فالصحابي القائد والمجاهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لخص الموقف والمسألة، في قولته الشهيرة “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا…” المسلم في منظور المذاهب والتفاسير القرآنية، حر في أساسه الديني، من غير أن يهبه أحد حق الحرية، فهي حقه الطبيعي الذي يحرم العبودية، إذ يشهد على ذلك ما تزخر به المكتبة الإسلامية من مصنفات وأطروحات، أنجزها الفقهاء والعلماء والفلاسفة المسلمون، حول تحريم العبودية، على اعتبار أن الأسياد، هم أحرار، يؤطر الإسلام حريتهم حسب ما تمليه الإرادة الإلهية.

في العصر الحديث، وفي خضم الاهتمام الجمعي بالحرية، عالج المسلمون مسألتها، من زوايا متعددة، واتخذ العلماء والفقهاء ورجال الدين والحكام، منها مواقف متعددة ومختلفة، سواء فيما يتعلق بعلاقتها بالدين وأحكامه، أو بعلاقتها مع النفس المسلمة.

بالنسبة للدين الإسلامي الحنيف، الإنسان حر في أساسه، يملك حق الحرية، كما شرعها الله، ومن لا يمارس هذا الحق، خوفا من صاحب نفوذ أو سلطان، ليس بحر، ويحتاج إلى من يدافع عنه… لذلك كان الناس في الدول الإسلامية الأولى، أحرارا، لا يهابون حاكما ويعلنون قدرتهم على تغيير المنكر، وعلى تقويم الاعوجاج، وعلى حماية الحرية والأحرار.

في نظر الباحث المصري المعروف، الدكتور محمد أحمد خلف الله ( في مقال له يحمل عنوان قضية الحرية في الشريعة) “المسلم لا يمكنه تأدية واجباته الدينية، ولا ممارسة حياته اليومية والعامة إلا على أساس الحرية… حرية الإرادة التي تمكن صاحبها من تحمل مسؤوليته في كل ما يقوم به من قول أو عمل …” .

في الفلسفة، يأخذ الأمر مجرى آخر، حيث الحرية هي غياب الإكراه والقيود التي يفرضها طرف على طرف آخر. فالإنسان الحر هو القادر على اختيار هدفه وطرقه، فهو الذي يستطيع الاختيار، سواء من خلال خضوعه لإرادة شخص أو دولة أو أية سلطة أخرى.

ويذهب بعض المفكرين إلى القول، أن غياب الإكراه، هو الشرط الكافي والضروري لتجديد الحرية، فطالما أن الإنسان يتصرف بملء إرادته ولا يخضع لأي إكراه في سلوكه فهو حر.

وفي نظر الفيلسوف البريطاني راسل :”إن الحرية بشكل عام هي غياب الحواجز أمام تحقيق الرغبات والأهداف”.

الحرية إذن، وبالنظر إلى التوجهات الفلسفية وقيمها، هي مفهوم ذاتي/شخصي/سياسي/اقتصادي/أخلاقي/فلسفي متداخل، ذو مدلولات متعددة ومتشعبة. وكل مدلول فيها يحتاج إلى مستوى معين من التحديد والتعريف، بل هي شبكة معقدة من المفاهيم، من الصعب تحديدها في كلمات، أو صهرها في مفهوم واحد. فالحرية تتضمن نظريا عدة “حريات” حرية الفكر/ حرية التعبير/ حرية الاجتماع والتنظيم/ حرية العمل/ حرية التحرك/ حرية التملك/ حرية الاعتقاد والعبادة/ حرية الانتماء/… إنها حقل واسع يصنع الإنسان بداخله اختياراته وقراراته، ويرسم من خلاله مجرى حياته، بعيدا عن أي إكراه أو قمع أو تسلط … أو توجيه.

في الثقافة السياسية، تبلورت فكرة الحرية عبر العصور والأزمان والحضارات، حتى إذا وصلت عصر التنظيمات والتحولات، حيث تراجع مجتمع التقليد، وتوسع نطاق الدولة، وانتشر الفكر الإصلاحي وبرزت مهام المجتمع السياسي، أصبحت الحرية المحور الأساسي الذي يترابط حوله إصلاح القوانين ومحو العادات البالية، كما أصبحت هي محور الأفكار والإيديولوجيات المؤثرة في تيارات الحضارة الراهنة والانتقال إلى العولمة.

لقد حظيت فكرة الحرية في العصر السياسي الحديث، باهتمام خاص، كإحدى الأفكار  المرتبطة بالإصلاحات الحضارية التي ينتظرها عالم اليوم،  بقيم ومفاهيم مختلفة، هي أكبر وأوسع.

يرى المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه “مفهوم الحرية”، أن التطورات الاجتماعية التي عرفها العالم في القرون الأخيرة، أفرزت حاجة موضوعية إلى هذه الحرية، وقد تم بالفعل تحقيق جزئي لبعض الحريات، ومازال البعض يتطلع إلى حرية أعمق وأشمل.

 

محمد أديب السلاوي