ترك لنا العديد من الفاعلين السياسيين المغاربة منذ الاستقلال مشاريع اجتماعية مواطنة، قاربت المجتمع المغربي في امتداده الجغرافي والتاريخي، واجتهدت في تحديد محطاته المتجددة ومعالم مساراته، انطلاقا من رهانات علمية شملت تحليل بنياته، ورصد نبضه ضمن منظومة سوسيو- اقتصادية شاملة.

طبعا، المغرب لم يكن، في يوم من الأيام، ينتمي إلى عالم الأنساق الصناعية الحديثة، اعتبارا للسياق التاريخي الذي نشأ فيه. ومن هنا، كانت "المعركة" الأولى لحاملي المشاريع المجتمعية الأولى هي حول تخليص ثقافتنا وسياستنا وعلومنا الاجتماعية من النزعة الاستعمارية وورثتها.

وفي خضم هذا الرهان الموضوعي، قاوم أبناء الشعب المغربي من أجل الحق في البنيات الأساسية كحق من حقوق الإنسان، ورافعوا في كل المحافل، خلال طول زمنهم الكفاحي والنضالي، من أجل الحق في الثروة للجميع.

وإذا كنا اليوم في حاجة ماسة إلى منظور صحي للوقوف على حقيقة معاناة الجسد المغربي في علاقته بالعوامل والمؤثرات الاجتماعية، فلأن صحة المغاربة لا يمكن حصرها في الجسد ككيان فيزيقي مادي يعيش في الفراغ أو بعيدا عن محيطه الاجتماعي؛ بل بات من اللازم إدراك كل الترابطات القائمة بين الحياة الاجتماعية وبين الجسد في معاناته مع الفاقة والحاجة والمرض، ذلك أن قضية الصحة مرتبطة بالأسس الاجتماعية وبأوضاع التفاوت واللامساواة الاجتماعيين. لذا، يعتبر الحق في تلبية الاحتياجات الصحية للأفراد لب الدفاع عن حقوق الإنسان، خاصة مع "ظهور الأمراض الحضارية" (كما يسميها عالم الاجتماع إدغار موران) وتزايد الاهتمام بقضايا الصحة والمرض من لدن ليس الأطباء فقط، بل حتى من لدن علماء الاجتماع وجمعيات المجتمع المدني.

إن المادة الـ25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تقر بالحق في الصحة، وتنص على أن لكل شخص الحق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهية (من المأكل إلى العناية الطبية، مرورا بالملبس والمسكن والخدمات الاجتماعية الضرورية) له ولأسرته. كما أنه لكل إنسان، وفق المادة الـ12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الحق في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية؛ وهو ما تجب ترجمته على مستوى الحق في التعليم، العلاج الطبيعي والرعاية الطبية للمسنين..

كما أن تناول قضايا الصحة والمرض على هذا الشكل بات من مستلزمات الحياة العصرية، خاصة أن أغلب المغاربة يعانون درجات مختلفة من الأمراض، نظرا لغياب الرعاية الصحية وأوضاع معيشية مناسبة لكافة المواطنين، كما تشهد على ذلك الميزانية الهزيلة جدا لقطاع الصحة، والتي لا تتجاوز 6 في المائة من الناتج الداخلي، فيما توصي منظمة الصحة العالمية بـ9 في المائة كمتوسط.

إن السياسة النكوصية الحكومية همشت الجامعة (ومرة أخرى نقولها)، وقزّمت دورها المهم والمحوري في التعاطي مع قضايا الصحة والأوبئة والتماسك الاجتماعي والفوارق الصحية بين الجنسين، وضربت عرض الحائط كل الأبحاث والدراسات التي تقوم على نشر الوعي الصحي بين الناس، والبحث عن الحلول والبدائل في ارتباط مع إلزامية المؤسسات العمومية في توفير المياه النقية، وتحسين أوضاع الناس، وتوفير الطعام والدواء على نطاق واسع، ومحاربة سوء التغذية، وتوسيع برامج التغطية الصحية والرعاية النفسية.

ومعلوم أن لعشرة آلاف مواطن مغربي الحق في ما معدله 6 أطباء فقط، في ظل أوضاع مسيئة إلى المرضى داخل المستوصفات والمستشفيات، التي تنعدم فيها الموارد البشرية ونقص حاد على كل الأصعدة، كما تشهد على ذلك كل التقارير، بمختلف مصادرها، حيث تصف الوضع بالمقلق جدا، نتيجة للاختلالات التي جعلت من المستشفيات مؤسسات البؤس وماكينة تصنع الموت، بسبب غياب الوسائل الضرورية لإنقاذ حياة الناس، وبسبب سوء الحكامة والتدبير.

إن مطالب الجمعيات الحقوقية (دسترة الحق في الصحة، وضع آليات الأجرأة، خلق مجلس أعلى للصحة، إلى غيرها من المطالب ذات البعد الكوني الخاص بالصحة والحماية الاجتماعية) لها ما يبررها اليوم؛ فكل المستوصفات والمستشفيات (في إقليم تاونات، والشاون، ومكناس، ووزان، والحسيمة، والرشيدية، وميدلت، وخنيفرة، وبولمان، وصفرو، وأزرو، وبني ملال.. إلخ)، وحسب التقارير الميدانية المتخصصة المنجزة من لدن الخبراء من داخل المغرب وخارجه، تشهد على الحالة الصحية المزرية ببلادنا؛ وهو ما يهدد حق كل إنسان في حياته.

ولعل التحديات التي تنتظر مغرب الجهات اليوم تبدأ من إدراج الحق في الصحة ضمن كل مخططات التنمية الجهوية، من أجل خريطة صحية متوازنة بين الجهات، تضمن لكل المغاربة العدالة الصحية والمساواة في العلاج والعيش الكريم، كما نص على ذلك دستور منظمة الصحة العالمية، الذي يعتبر الصحة حالة من اكتمال السلامة بدنيا وعقليا واجتماعيا، لا مجرد انعدام المرض والعجز.


مصطفى لمريزق