مدخل مفاهيمي

 

       معظم المعاجم الأدبية والأكاديمية تواضعت على تعريف الزمن كعملية متوالية للوجود وسيرورة الأحداث في الماضي والحاضر والمستقبل ، أو الفترة القابلة للقياس ؛ خلالها يقع عمل ما . كما يعني أيضا البعد الكوني الفيزيائي الذي تتسلسل فيه الأحداث في مكان معين .

ولعل أفضل هذه المفاهيم هو ما نجده في موسوعة ويكيبيديا  Wikipedia للعلوم : " البعد الذي تنتظم داخله الأحداث من الماضي وخلال الحاضر إلى المستقبل ، كما يقيس آماد الوقائع والفترات بينها "

ولقد صرف مجهود كبير للتعريف الفلسفي للزمن من خلال قلق الناس وإيمانهم بالقضاء والقدر ... وكأن كل ما سيحدث في المستقبل أمر لا مفر لنا منه . على أن هناك وجهة نظر مماثلة ترى أن الحاضر فقط هو الزمن الحقيقي ويدعى بالحاضرية Presentism .

وسنقتصر في عرضنا على وجهة النظر السيكولوجية اتجاه الزمن لدى الأشخاص وفي وضعيات مختلفة .

 

حالات الزمن السيكولوجي (النفساني)

 

       إن أي أحد منا حضر اجتماعا عاما مملا ، يعلم أن خمس دقائق خلاله تبدو وكأنها ساعة ، فبإمكان الزمن أن يطير إذا ما كنت غارقا في الشغل على مشروع في موعده النهائي .. أو كنت في امتحان كتابي ، فالزمن يبدو وكأنه يستعجلك وقد لا تلحق به . مثل هذه الحالات المتصلة بقياس الزمن السيكولوجي تناولها الباحثون منذ ظهور علم النفس التجريبي Experimental Psychology ، وبمرور الوقت أوضح العلماء أن حفظ الزمن الباطني Internal Time هو أبعد ما يكون عن المطلق .

التوقيت والدماغ 

 منذ بداية القرن الثامن عشر اختبر علماء النفس Psychologists كيف يفسر الناس الزمن . فتجارب التعامل مع المدة الزمنية Duration ؛ من حيث الطول والقصر ؛ تحاول توضيح قول مأثور قديم " الزمن يطير حينما تكون مرحا " فقد سأل علماء تجريبيون عينة من المشاركين في التجربة لتقدير مدى الزمن الذي أمضوه كليا في نشاطهم ، كما عمدوا إلى تغيير أوجه هذه الأنشطة من حيث الصعوبة والطول للاستدلال على العلاقة التوافقية بين الأوجه المتغيرة والتقديرات الزمية للمشاركين .. فتوصلوا إلى وجود علاقة متينة بين القشرة الدماغية (اللحاء) ، وعامل حفظ الزمن ؛ أي كلما كان نشاط الدماغ سهلا دون وجود صعوبات كلما أمكن لصاحبها تقدير مدى الزمن المنصرم ، وضعف هذه القشرة الدماغية كثيرا ما تكون المسؤول المباشر عن صعوبة تقدير المدى الزمني .

أزمان الغني والفقير..  والشيخ 

 تبعا لدراسات سيكولوجية حديثة ، فإن زمن البشر يأخذ معاني وأبعادا من حيث ـ الطول والقصر ؛ والسرعة والبطء ؛ والتحمل وعدم التحمل ؛ والغنى والفقر ؛ والأمل واليأس ـ وسنحاول فيما يلي الوقوف عند حالات بعضها : 

بالطبع حركة زمن الإنسان الفقير بطيئة قياسا مع حركة زمن الغني ؛ فزمن الأول تحركه الأوضاع من حوله وتدفعه إلى جني ثمارها على المدى البعيد (مستقبلا) ، فإذا كانت جافة ومقفرة تباطأت حركية زمانه إلى درجة قد تصل إلى التوقف ويعني في هذه الحالة اليأس والركون إلى الجمود ، على أن هناك حالات من السرعة في الزمن ـ لدى الأغنياء ـ تنعكس على أصحابها بأمراض مستعصية قد تفقده بعض وظائفه الفيسيولوجية ؛ تظهر في أشكال الأرق والقلق وارتفاع الضغط .. في حين أن الشيخ عموما تكاد حركية زمانه تتوقف وتلبث لصيقة بالماضي .. يستعيد أحداثه ويتقوقع داخلها ، ويبحث عمن يقاسمه بطولاتها من خلال السماع .. فهو يعيش داخل ماضيه ولا يجد عنه بديلا ، لما يمنحه من الشعور بالوجود والفاعلية ، فضلا عن المؤانسة والتي غالبا ما يفتقدها محيطه .

تمديد الزمن السيكولوجي

 أوضحت تجارب سريرية أن هناك علاقة متينة بين تمدد الزمن والأمل ؛ فكلما كانت لنا آمال مستقبلية عريضة إلا وتسارعت وتيرة الزمن ومنحتنا الأمل في العيش .. وكلما ضعف الأمل وحل اليأس نفوسنا تباطأت بنا خطوات الحياة ، فالأمل في الشيء ـ قريبا أو بعيدا ـ دوما يولد في الإنسان قيمة الزمن والحركة والترقب والعمل ... ويدفع به إلى تحمل الصعاب أملا في بلوغ مراميه وآماله المسطرة .

تقدير الزمن ينسحب على الجماعات كما ينسحب على الأفراد

 الدول التي تشيع فيها القيم الديمقراطية لديها مفهوم دقيق للزمن وتقدير أهميته ؛ يختلف تماما عن دول أخرى تشيع فيها انتهاكات لحقوق الإنسان ، وتبخيس دوره في التنمية .. ولعل أقرب مثال لتبيان هذه العلاقة ظاهرة العطالة ، فالعاطل لا يعي للزمن معنى ، وتجري حركيته ؛ بالنسبة إليه ؛ بوتيرة جد بطيئة لا تتجاوز ساعات يومه وقد تفضي به إلى الضياع واليأس إذا لم تكن لديه نقطة أمل مشعة في حياته .

استغلالنا لعامل الزمن

 يعد هذا المبحث ذات أهمية قصوى في التعرف على شخصية الإنسان والجانب الثقافي منها . ويعتمد تنظيم الوقت واستغلاله على ثقافة الشخص ورؤيته للحياة ورصيده الثقافي (الثقافة بالمعنى السوسيولوجي)عموما ، وتفاعله مع أحداثها .. فكلما كانت هناك برمجة للزمن واستحضار خصوصيات الظروف العامة .. كلما اتسمت شخصية صاحبها بالضبط والتحكم في هذه الظروف ، بدلا من السقوط في الارتجالية ، ومنح الزمن زمام التحكم في صاحبها ، عوض أن يتحكم فيه ، وهكذا نعثر على حالات لأشخاص تغمر الفوضى حياتهم ، يدعون كل شيء للصدفة .. على النقيض تماما من وجود حالات تنعدم لدى أصحابها بالكاد الصدفة ، بل ويعتبرونها اختلالا في برمجة حياتهم ، ومثل هذه الحالات تتحول إلى ظاهرة لكن لدى شعوب المعرفة .


عبد اللطيف مجدوب