إن متابعة منتظمة للكيفية التي تعاملت وما تزال تتعامل بها القوى الدولية الغربية مع تداعيات ثورات الربيع الربيع واحتجاجاته، ومع التطورات والمستجدات التي لحقتها على مدى ست سنوات من الحراك المتأرجح في مطالبه بين التغيير والتطوير تؤكد وجود تصميم بين كافة المؤسسات السياسية و الأكاديمية وأجهزة الاستخبارات ورصد المعلومات على اختلاف مسمياتها على عدم التفريط فيما أفرزته هذه الانتفاضات الشعبية من معطيات سياسية واقتصادية واجتماعية بغية تحقيق أهداف تراها هذه القوى الدولية حيوية وضرورية لمصالحها العليا في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا.
إن اختلاف أشكال التعامل وتعدد طرقه وتضاربها في بعض الأحيان بين عواصم القوى الغربية كما تتجسد في تحركات مسؤوليها وفي تصريحاتهم لا يخفي حقيقة الهدف الأسمى الذي ترومه هذه القوى، المتمثل في عدم السماح لهذه المنطقة الحساسة من العالم أن تظل خارج سياق التطور البشري، عصية على مبادئ الديمقراطية الفعلية، ومؤسساتها التمثيلية، مكتفية أنظمتها الحاكمة باتباع أساليب تشاورية عشائرية وقبليةـ أو بإقرار مؤسسات شكلية كواجهة للتزيين ليس إلا.
ورغم التباين في تعامل وتفاعل أنظمة دول المنطقة مع الثورات والاحتجاجات التي رجتها، فقد استخلصت القوى الغربية أن تلك الأنظمة بصورة عامة غير معنية البتة بالبحث عن آليات للتجاوب بإيجابية وحسن نية مع تطلعات شعوبها، وإنما همها الأساسي كان وما يزال استعادة الاستقرار بأي ثمن، وكل نظام بطريقته الخاصة، رافضة أن تستوعب أن استقرارا صلبا ودائما يتطلب إحداث تغييرات جوهرية سياسية واقتصادية واجتماعية بدا واضحا أنها تتحايل عليها غير راغبة فعلا في إنجازها.
وما أثار ويثير القوى الغربية هو أن بعض الأنظمة العربية وخاصة ذات الأنظمة الوراثية، وبعد أن تجاوزت الدهشة الأولى للثورات والاحتجاجات، وتأكدت من الحفاظ على درجة عالية من التماسك الاجتماعي والاستقرار الأمني أبدت تصميما غير معهود فيها على القيام بأدوار إقليمية صونا لما تعتبره حيويا واستراتيجيا لمصالحها الوطنية ولحلفائها، ومن تعتبرهم شركاؤها في المصير، عاملة ليس فقط على دعم فلول الردة لإخماد ما تبقى من شظايا الانتفاضات الشعبية، وإنما على المساعدة في استعادة أنماط الاستبداد المألوفة ولو تدريجيا، ومن وراء قفازات حرير.
وتزداد الإثارة لدى القوى الغربية أكثر ممزوجة بنوع من النقمة أيضا عندما ترى الزخم الكبير الذي ارتدته التحركات الإقليمية لهذه القوى العربية التقليدية المعتادة على العمل في الكواليس أكثر من تصدر المشهد، وبردود الأفعال أكثر من المبادرة وروح الاستباق، ناهيك عن الاستقلالية في اتخاذ قرار التحرك، وفي تعدد وتنوع وسائل هذا التحرك بما في ذلك القوة العسكرية، وشساعة المساحة التي يجري فيها على امتداد خريطة العالم العربي.
هل ترضخ القوى الغربية وتنفض يدها من إمكانية إحداث التغيير في منطقة تعول على الغرب في كل شيء تقريبا، ولا تتقيد بنموذجه سوى في الجانب الرأسمالي الشرس، معرضة ورافضة لنموذجه السياسي الديمقراطي والحداثي تحت ذريعة الخصوصية المحلية أو ما بات شائعا باسم "الاستثناء" ؟ وهل تفوت فرصة ذهبية لممارسة المزيد من الابتزاز الذي يعود عليها بمنافع سياسية ودبلوماسية وأخرى اقتصادية وتجارية واستثمارية ضخمة ؟.
هل يقبل هذا الغرب انتكاسة ثانية بعد الشلل الذي أصاب آلية منتدى المستقبل، التي طواها النسيان دون تحقيق أي خطوة فعلية في اتجاه تطور ديمقراطي حقيقي في العديد من بلدان المنطقة ؟ وهل ينسى أنه استحدث تلك الآلية في أوج سطوته ورعب كافة الأنظمة من مصير مشابه لمصير نظام الرئيس صدام حسين، ومع ذلك تم التمويه على جوهرها بإصلاحات شكلية فقط ؟.

واهم من يعتقد بذلك، ويراهن على أن تغير الإدارات وتعاقب الأحزاب على السلطة وتسيير الشؤون العامة قد يدفع الغرب إلى التخلي عن مشاريعه ومخططاته. إن العديد من المعطيات تشي بغير ذلك. فليس صدفة أن يتزامن صدور افتتاحية بجريدة الغارديان البريطانية تتحدث عن إمكانية اندلاع ثورات واحتجاجات جديدة وجدية في إطار الربيع العربي، مع تسريب مقتطفات من تقرير لمجلس المخابرات الوطنية الأمريكية ، ومع تقرير في مجلة Geopolitical Futures يذهب إلى توقع انهيار مفهوم الدولة في عدد من الأقطار العربية، وبروز الانتماءات الدنيا "البدائية" كالطائفية والقبلية والعشائرية.
من هذا المنطلق لا تستبعد تلك التقارير تزايد الصراعات الإقليمية في المنطقة على خلفيات متعددة دينية ومذهبية وقومية وسياسية واجتماعية من شأنها أن تساعد على تفاقم ظاهرة الإرهاب المستفيدة أيضا من تصاعد النقمة الشعبية ضد الظروف الاقتصادية المهترئة، وعودة الاستبداد والقمع إلى سالف عهده ؛ الأمر الذي يجعل الأوضاع أكثر قابلية للانفجار، ويدفع نحو المزيد من التشظي.
واستنادا إلى معطيات تاريخية ترى تلك التقارير أن التشرذم كان دائما هو السمة الغالبة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حيث تمحور تأسيس معظم الأنظمة والدول حول عصبية العائلة والقبيلة أو العشيرة أو المؤسسة الأمنية والعسكرية، وحيث ظلت بنيات الدولة عند المستوى الذي أدخلته السياسة الاستعمارية، مع تنقيح شكلي بإيديولوجيات مستوردة هي الأخرى وبشكل مشوه من الغرب كالقومية والاشتراكية. وقد ارتكزت تلك الأنظمة أساسا على تعزيز سلطاتها القمعية التي ولدت انطباعا خاطئا عن نجاح انصهار مكونات المجتمعات في بوتقة واحدة.
إن انفجار تلك البوتقة عند أول شرارة من ثورات الربيع العربي واحتجاجاته، وخاصة في دول كان يبدو أن الأمن ممسوك فيها بيد من حديد ( سوريا وليبيا ) أغرى كثيرون في الغرب بالدعوة إلى مواصلة تعميق هذا التشظي وتوسيع نطاقه من خلال تأجيج العوامل التي تسرعه ؛ وذلك كلما سنحت الفرصة، وخاصة في الدول والأنظمة التي أبدت نوعا من التحدي، وانطلقت تسعى إلى وأد العديد من الحراكات الجماهيرية، سيما في الساحات التي تسيد المشهد السياسي فيها تنظيمات وتيارات الإسلام السياسي، التي كانت تحظى بعطف وبدعم غربي، أمريكي بشكل خاص.
وباستثناء قطر التي كانت داعما رئيسيا للعديد من قوى الإسلام السياسي، فإن معظم الأنظمة العربية الوراثية نزلت بكل ثقلها لإجهاض تجارب هذا الإسلام في السلطة وتسفيه مشاريعه وإذلال رموزه إن اقتضى الحال. ولا شك أن المصلحة الغربية تقتضي مواصلة استنزاف البعض من هذه الأنظمة لصعوبة أو استحالة إثارة رأيه العام الداخلي من جهة، واستثمار النقمة الاجتماعية لتأجيج الحراك الجماهيري ضد البعض الآخر من جهة ثانية.
ولعل أهم مبرر يستند عليه أنصار نظرية تعميق التشظي يكمن فيما يدعونه عن عجز الدول والأنظمة الوراثية التي تصدت لإخماد الحراك الشعبي عن إتمام مهامها وتحقيق ما تطمح إليه، وذلك رغم تعدد الأدوات والإمكانيات، التي توفرت لديها مستشهدين في هذا السياق بما يلي :
*إن ضخامة الدعم الخليجي لنظام الرئيس السيسي في مصر لم تفلح في إنعاش الاقتصاد المصري وتجاوزه مرحلة الاختناق المطلة على الإفلاس بقدر ما نجحت في الحض على استئصال جماعة الإخوان المسلمين من الساحة.
*عدم قدرة التحالف العربي الذي قادته تلك الأنظمة على حسم الصراع في اليمن رغم مرور أزيد من سنتين على اندلاعه.
ومن خلال التجربة العراقية، وما يجري على الساحة السورية تولدت لدى عدد من الدوائر الأكاديمية والاستخباراتية الغربية قناعة مفادها التشظي قد يصبح مطلبا جماهيريا إذا ما طالت مرحلة عدم الاستقرار، التي ينبغي لإطالتها مواصلة تغذية عواملها باستمرار مصحوبة بزرع المزيد من بذور الشك والريبة بين المكونات الاجتماعية قصد تعميق فجوة عدم الثقة بينها، وإحياء أي تناقضات كامنة تاريخيا داخلها.
وبديهي أن أول مصدر لعدم الاستقرار هو طغيان الاستبداد وما يرافقه من امتهان للكرامة الإنسانية، وسيادة الفساد وما يعمقه من فوارق اجتماعية. ولذلك بدأ التركيز في الآونة الأخيرة على نشر تقارير اقتصادية ومالية منتظمة تطعن في السياسات الاجتماعية المتبعة في تلك البلدان، وخاصة في المجالات الحساسة المرتبطة مباشرة بالحياة اليومية للناس ( الصحة والتعليم.. )، ولا تتوانى في النيل من سمعة وهيبة القيادات السياسية عبر تسليط الضوء على بعض من أنشطتها التجارية ومعاملاتها المالية، وأنشطة المقربين منها ( وثائق بنما على سبيل المثال ).
والواضح أن مرحلة تأجيج النقمة ضد هذه الأنظمة لن تخفت فهي مسترسلة وستظل مواكبة لأي حراك اجتماعي أو حتى نقابي يقع داخل دول تلك الأنظمة. فهل يمكن اعتبار ذلك إيذانا بإذكاء الاضطرابات الاجتماعية في بلدان الأنظمة الوراثية على غرار ما حصل ويحصل في الأنظمة الجمهورية ؟ إرهاصات عديدة توحي بذلك أبرزها :
*السعي إلى تفعيل القانون الأمريكي المسمى بقانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب" المقصود به الدول التي ينحدر منها الإرهابيون الذين خططوا ونفذوا أحداث 11 سبتمبر 2001 في إشارة جلية إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. الابتزاز المالي هنا لا غبار عليه.
*تسخين الساحة البحرينية، الذي انطلق مع محاولة هروب بعض المعتقلين من سجن "جو" وإعلان النفير العام تزامنا مع انتشار خبر إعدام متهمين باغتيال رجال شرطة، ومع ما قيل عن رغبة أمنية في اقتحام منزل الشيخ عيسى قاسم المتهم بمخالفات مالية جسيمة.
*تصاعد وتيرة الاحتجاجات ذات الطابع الاجتماعي في الأردن على خلفية أزمة اقتصادية ومالية خانقة دفعت قاضي قضاة الأردن السابق إلى تحذير دول الخليج من مغبة عدم مساعدة الدولة الهاشمية في الخروج منها. وهي احتجاجات متنقلة في كافة التراب الأردني.
*نشر شائعات غير موثوقة عن محاولة انقلاب وهمية في هرم السلطة بالإمارات العربية المتحدة، مرفوقة بتضخيم لحالات اعتقال بعض النشطاء الذين لم تنته بعد أطوار محاكمتهم، ولبوادر أزمة سيولة مالية تعانيها البلاد، ناهيك عن محاولة استغلال مشاعر عدد من عائلات ضحايا الجيش الإماراتي في اليمن.
*النفخ الإعلامي في الحراك المطلبي المشروع في مجمله في مدينة الحسيمة المغربية، ومحاولة دمغه بطابع عرقي منبوذ من المتظاهرين أنفسهم، وذلك بالتوازي مع سعي إلى توتير الوضع على حدود التماس بين القوات المسلحة الملكية المغربية وفلول مرتزقة البوليزاريو، وإعطاء انطباع بأن حربا مفتوحة وشيكة بين الطرفين.
إذا أضفنا إلى ما سبق كل ما يجري من صراعات في ساحات أخرى، وتواصل حشر القوى الإقليمية غير العربية لأنفها في الصراعات الداخلية لعدد من الدول العربية وإضفاء طابع ديني ومذهبي على بعضها، والتورط المتزايد للقوى العظمى في تلك الصراعات، فإن مستقبل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يبدو قاتما ومفتوحا على المجهول.
فهل سيستخدم أهل المنطقة يوما ما الذكاء أم سيظلون دوما أسرى الغرائز والغباء ؟

  • عبد القادر زاوي