واقعة سياسية مستفزة حدثت نهاية شهر يوليوز 2007 بالعاصمة السنغالية داكار تحتاج إلى نظر، تتمثل في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أمام نخبة من المثقفين والجامعيين، إذ قال إن الإنسان الإفريقي لم يدخل بشكل كبير إلى التاريخ، وإنه يرفض التطور، وإن مشاكل القارة لا ينبغي أن تلصق بالاستعمار، وإنما هي بسبب طرق تدبيرها من قبل أبنائها.

هذا الخطاب الذي لقي استهجانا كبيرا، إن في إفريقيا أو في أوروبا، ونال قسطا وافرا من النقد والتنديد، واعتبره عدد مهم من الأكاديميين تعبيرا عن جهل عميق بالتاريخ وحقائق الخرائط الجغرافية والبشرية؛ كما اعتبر أيضا آنذاك خطابا يحمل في عمقه نظرة الاستعمار التحقيرية لأبناء إفريقيا، ويجسد بشكل رسمي وعلني الصورة النمطية للغرب عن القارة السمراء.

الصورة التي تحدث عنها الرئيس الفرنسي هي نفسها التي يتداولها الإعلام الغربي بأشكال متنوعة في جميع منابره الكبرى، وتعطي الانطباع في نهاية المطاف بأن هذه القارة هي أرض للجياع والمتوحشين، والشعوب غير المنتجة المتسولة للصدقات والمعونات، والتي تعيش عالة على العالم المتقدم ولا تنتج إلا الحروب والإرهاب والهجرة.

في المقابل نجد هناك اهتماما غربيا وتنافسا إعلاميا محموما وقويا حول القارة لا يمكن تفسيره إلا بالطمع الكبير في خيراتها الطبيعية المستقرة في باطن الأرض وعلى سطحها وفي أعماق بحارها. هذا التنافس الذي بدأ منذ زمن الحرب الباردة بين الشرق والغرب زمن الصراع الأيدلوجي الحاد، إذ أسست كل قوة كبرى قنوات إذاعية تبث لإفريقيا باللغات التي يفهمها شعوبها، ليشتد التنافس في السماء الإعلامية الإفريقية في زمن الفضائيات، وبعد ذلك على الحيز الإلكتروني في زمن الإنترنت، ليتم إطلاق العديد من القنوات العالمية من الصين التي أنشأت قنوات خاصة بالقارة السمراء، وروسيا التي اهتمت إعلاميا بها منذ خمسينيات القرن الماضي، وفرنسا التي أحدثت عدة قنوات إذاعية وعدة صحف ومجلات مخصصة لها، وبريطانيا من خلال "البيبيسي"، وأمريكا التي أضحت لكل قنواتها وجرائدها الكبرى محطات ونسخ لإفريقيا، وأيضا تركيا التي خصصت 2005 عاما لها، مع اهتمام إعلامي كبير بها وبفرص الاستثمار المتبادل، وجنوب أفريقيا التي أسست قنوات فضائية وعدة منابر صحافية متميزة بتأثيرها القوي على مستوى جنوب القارة. كذلك مصر اهتم إعلامها بشكل كبير بالقارة منذ عهد جمال عبد الناصر، إذ أطلقت إذاعات موجهة إليها ببعض اللغات المحلية، كالسواحلية، واللغات العالمية كالإنجليزية.

كلها استثمارات ضخمة بواسطة أموال عمومية للدول أو بواسطة رؤوس أموال خاصة، في سبيل كسب ود القارة وسكانها، وأيضا للتأثير في قراراتها الرسمية، واستمالة خيراتها التي لا تعد ولا تحصى.

وبين هذا وذاك حاول المواطنون الأفارقة بواسطة الإعلام البديل المحلي والدولي، وعبر شبكات التواصل الاجتماعي، التعريف بالقارة، ونسخ الصورة النمطية السائدة، فكان أن انطلقت حملات كثيرة ومتعددة عبر "تويتر" و"فيسبوك" للحديث عن مزايا إفريقيا وثرواتها وجمال طبيعتها، وأيضا عن الحضارات التي تأسست فيها، أو التي عبرتها، كان لها تأثير بالغ في البشرية كلها.

ولكون التواصل بين الشعوب والأمم لا يمثل عملية تعارف فحسب، بل يشكل الأساس الأهم لبناء الثقة وخلق قنوات التفاهم والتفاعل المؤثر والمحرك لدواليب البناء المشترك ولعجلات التنمية، فقد حاول "مناضلو الإعلام الإفريقي" أن يشرحوا للناس أن القارة أيضا حصلت على عدد كبير من جوائز نوبل في السلام والعلوم والآداب، وأن لها تاريخ عريق، وأنها شابة وسكانها منتجون للخيرات وللثروات وللأفكار العلمية، وأنهم أيضا إنسانيون أبدعوا الشعر والأدب وفي كل الفنون والأذواق، وأن أحد برلماناتها أكبر البرلمانات تمثيلية للنساء في العالم، وتحديدا في رواندا، حيث ثلثا أعضائه نساء، وهو غير المتوفر في أكبر وأعتى الديمقراطيات في العالم.

غير أن هذه المحاولات لم تحقق نتائج كبيرة، وأصبح الآن لزاما على الدول تحمل مسؤولياتها في خلق جسور تواصل جديدة وقوية داخل القارة أولا، لتمتد بعد ذلك إلى العالم كله.

عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي ليست غاية في حد ذاتها أو نهاية السير نحو قلب القارة وعمقها بقدر ما هي أول مفتاح لأول بوابة نحو مستقبل بناء، وفي الوقت نفسه شائك المجاري ومستعصي الملفات والقضايا.

من أهم الملفات التي يتعين على المغرب الاشتغال عليها بعمق وتركيز فتح بوابة التواصل داخل القارة مع الشعوب بمختلف الهويات الثقافية والوطنية، من أجل التعارف والتأثير وكسب ثقة الشركاء، ثم خارجها من أجل مقاومة الصورة النمطية عن إفريقيا في سبيل الدفاع عن المجال والإنسان الإفريقيين كأرضية للتنمية والإنتاج.

إن التدبير الإستراتيجي للتواصل والقنوات الإعلامية، كما يقول الخبراء في المجال، لا يتوخى فقط تحقيق الرغبة في الإخبار ونقل المعرفة أو الإقناع، وإنما أيضا يشمل التعبير عن الرفض والمقاومة والسعي إلى اكتساب شرعية ما أو نزعها عن الخصوم، وممارسة دبلوماسية موازية ناعمة قد تكون أقوى من الدبلوماسية المباشرة.

وقد لعب المغاربة والأندلسيون من أصل مغربي دورا تواصليا مهما عبر التاريخ للتعريف بإفريقيا وبلاد السودان، من أهمهم حسن بن الوزان وابن بطوطة وغيرهم، وكان لهم فضل كبير على تعرف الأوروبيين وتحديدا المؤرخين والعلماء على القارة الأفريقية الأم. غير أن التحديات المفروضة الآن على المغرب وعلى القارة تفرض تدبيرا دقيقا ومحكما للتوغل الإعلامي والثقافي.

ومجمل القول، يقتضي العمل في إفريقيا من أجل إفريقيا الاهتمام بشكل جدي ومهني بالجانب الإعلامي، ليتسنى إبراز قدرات وجدية المغرب في الدفاع عن القارة، وفي نشر قيم السلم والعيش المشترك، من خلال خلق منابر إعلامية وقنوات تلفزية وإذاعية وإلكترونية بأهم اللغات في القارة، لنشر الثقافة المغربية والثقافات الإفريقية عبر العالم، وبغاية اقتحام المجال القاري بشكل يلغي التقسيم الاستعماري بين شمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء، ويغير نظرة الأفارقة للمغرب، لأنه في آخر المطاف لا تهمنا كثيرا صناعة نظرة للمغاربة إلى شركائنا في القارة، لأنها واضحة ومنسجمة مع فكرة وحدة المصير الإفريقي، بقدر ما تهمنا نظرة الأفارقة لنا، والتي يتعين توجيهها وفق مصالح البلاد دون الإخلال بمصالحهم، مع مراعاة كل الحساسيات القابلة للانفجار، وهي مرتبطة بالخصوصيات القبلية والهوياتية الثقافية، مع استحضار هدف محاصرة كل الأطروحات المعادية للمملكة في الأوساط السياسية والإعلامية داخل القارة، مع ضرورة التمييز المؤقت بين إفريقيا وبين الاتحاد الإفريقي.


إدريس بنيعقوب