حال الأمازيغية اليوم ليس بخير كما هو حال بلدنا المغرب، الذي يعيش على إيقاع أزمة "بلوكاج" تهدد القليل من المكتسبات التي تحققت منذ سنة 1999 مع التناوب التوافقي وانتقال العرش. "البلوكاج" ليس سياسيا فحسب، بل اقتصادي وثقافي ولغوي، يضاف إليه "البلوكاج" الأكبر المرتبط بتفعيل دستور 2011 وتأويله ديمقراطيا.

كثيرة هي الأوراش التي توقفت، أو تسير وهي تترنح قد تسقط عند كل هبة ريح. من بين تلك الأوراش ذاك المتعلق بإنصاف الأمازيغية، الذي عوض أن تزداد وثيرة إنجاز مراحله بعد الترسيم، أصبحنا شهودا على الهدم الممنهج لما تم بناءه منذ سنة 2001 في قطاعي التعليم والإعلام، وذلك باعتراف المسؤولين الرسميين المكلفين بالمساهمة في تدبير الملف الامازيغي.

وإذا كانت مسؤولية الدولة ثابتة في ما يحصل، فلا شك أن مسؤولية باقي الفاعلين قائمة. لا يمكن للحركة الأمازيغية اليوم أن تدفع ببراءتها من أزمة الملف الأمازيغي، فمسؤوليتها قائمة والإعتراف بذلك وتشخيصه في أفق المعالجة، قد يساهم في تصحيح ما يمكن تصحيحه وإنقاد ما يمكن إنقاده. وإليكم بعضا من عناصر التشخيص على سبيل التوضيح لا الحصر.

حالة التشردم الذي تعيشه مكونات الحركة الأمازيغية، تحول دون تحقيق التكامل الواعي بينها. فرغم إجماعها حول الهدف العام – إنصاف الأمازيغية – والأهداف المتفرعة عنه، يستطيع كل متتبع للعمل الأمازيغي أن يدرك بأن هناك الكثير من الأهداف المشتركة وغير قليل من المصالح المتباينة. إن تباين المصالح بين الجمعيات والأفراد داخل الحركة الأمازيغية وغياب آليات عقلانية لتدبير ذاك التباين، حول التناقضات الثانوية إلى تناقضات رئيسية، وشجع على الإنقسامية، وحل الشك والخلاف مكان الثقة والإختلاف، واستحال معه العمل المشترك. الحركة الأمازيغية اليوم أرخبيل، صحيح أنه ممتد، لكنه هش، جزره المشتتة توجد اليوم تحت رحمة الإنحباس المصالحي والأمواج غير المألوفة. لقد غاب عن الفاعل الأمازيغي بأن قوة الحركات المركبة كالحركة الأمازيغية، تكمن في الإحاطة بالدلالات الوظيفية لتعدد مكوناتها وتعدد الاختيارات داخلها، وبأن ضعفها يكمن في وضعية العمى الجماعي الذي تعاني منه.

لا أحد ينكر بأن ما تحقق لفائدة الأمازيغية منذ سنة 2001، كان محصلة التقاء إرادتين واعيتين، من جهة إرادة الحركة الأمازيغية والفئات الشعبية والنخب المساندة لها، ومن جهة أخرى إرادة الملك. غير أن تحصين ما تحقق وضمان ديمومته وتعزيزه، في حاجة بالإضافة إلى تأطيره قانونيا ومؤسساتيا إلى الإرادة السياسية والديناميات المجتمعية. في حاجة إلى وعي الفاعل الأمازيغي بأن الإرادة السياسية هي محصلة حركية من اتجاهين إذا غاب أحدهما أو خفت وهجه استحال حصول الإرادة، فهي لا تأتي من الأعلى أي السلطة وحدها، بل من الأسفل أيضا من خلال دور المجتمع المدني في عملية التدافع والضغط لإفراز ما يكفي من الشحنات لإطلاق شرارة الحركية من الأسفل. لتكون الحركة الأمازيغية في مستوى هذه التحديات، فهي مطالبة ببلورة استراتيجيات وخطط عمل في مستوى القوة الناعمة للدولة في تدبير الملف الأمازيغي، ولأجل ذلك وجب على الفاعل الأمازيغي التحرر من الدوغمائية والبراديمات المتجاوزة، وتجديد الخطاب الأمازيغي ومقاومة تعويم ملف الحقوق اللغوية والثقافية والهوياتية ولازمة العدالة المجالية.

تعيش الحركة الامازيغية أزمة خطاب، فقد تعطل العقل الأمازيغي وعجز عن مواكبة التطورات المتلاحقة وطنيا قاريا ودوليا. فذات العقل الذي وظف فلسفة الإختلاف وبلور بدائل ومقاربات ناجعة لتدبير ملف التعدد اللغوي والثقافي وأزمة الهوية بالمغرب، وجعل من الحركة الأمازيغية قوة اقتراحية حقيقية، تعطلت لديه ملكة الإبداع. لقد أصبحت مكونات الحركة كالمصدوم من التحولات السريعة والمتباينة التي يعرفها تدبير الدولة للملف الأمازيغي، والمتراوحة بين مد قوي - تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وترسيم الأمازيغية – وجزر أقوى من خلال "إفشال" أو على الأقل السماح بإفشال إدماج الأمازيغية في المنظومة التعليمية والإعلامية، ومحاولة الإلتفاف على ترسيم اللغة الأمازيغية من مداخل القانونين التنظيميين المنصوص عليها في المادة الخامسة من الدستور.

ظلت مطالب وأهداف الحركة الأمازيغية واضحة منذ ميلادها حتى بداية الألفية الثانية. فالتيمات التي اشتغلت عليها وترابطها الجدلي – اللغة، الثقافة، الهوية والعدالة المجالية – جعلت من قوة الحجة لديها سلاحا تواجه به حجة القوة لدى الدولة ولدى المناوئين لها من المجتمع المدني والسياسي. لكن منذ بداية الألفية الثانية تعرض الخطاب الامازيغي لعملية تعويم، حيث الحقت به قسرا نزعات الحكم الذاتي، وأوهام القومية الأمازيغية، وطموحات العلمانيين بخلفيات أمازيغية وغيرها من التيمات التي شوهت الخطاب الامازيغي المؤسس وانحرفت به بعيدا عن الأهداف التي من أجلها بلور. وقد نتج عن هذا التعويم والإنحراف، إغراق الأهداف المؤسسة (اللغة، الثقافة، الهوية والعدالة المجالية) في بحر من القضايا وأشباه القضايا، والتفاصيل وتفاصيل التفاصيل. من حق البعض أن يناضل من أجل "الحكم ذاتي" أو النظام الفدرالي، ومن حق البعض الآخر أن يكون قوميا أمازيغيا أو علمانيا بخلفية أمازيغية، لكن ليس من حقهم جميعا توظيف الأمازيغية كمشترك جماعي للمغاربة في معاركهم، ليس من حقهم الإنحراف بالنضال الأمازيغي عن أهدافه المؤسسة.

من تجليات أزمة الخطاب وتعويمه والإنحراف به، نزوع بعض مكونات الحركة الأمازيغية إلى القفز على الشعار المؤسس "الأمازيغية مسؤولية وطنية ومسؤولية الجميع"، أصبح لديها اقتناع بأن الأمازيغية ملك فقط لمن يعمل من أجلها ويقاسمها نفس القيم. لا يمكن أن يشك أحد في النوايا الطيبة لهذا البعض، لكن الطريق إلى الجحيم غالبا ما يكون مفروشا بالنوايا الطيبة. احتكار الملف الأمازيغي من طرف بعض الأمازيغ، يعني بكل بساطة حصرها في "غيتو ثقافي ولغوي بئيس"، وإقبار لمشروع تملك المغاربة للغتهم وثقافتهم في إطار المصالحة مع الذات، الذي بدونه (التملك) سنعود بالأمازيغية إلى المربع الأول، لغة هامش مهددة بالإنقراض.

كان العقل الأمازيغي ينهل من التراكم المعرفي والقيمي للمجتمع المغربي، وكان منفتحا على كل ما وصلته العبقرية الإنسانية من رقي معرفي وقيمي، وانعكس ذلك على مطالبها بالمساواة والعدالة والكرامة وإحقاق الحقوق، حتى استحقت معه أن تكون تعبيرا محليا لمطالب كونية. اليوم وأمام كل المياه التي سارت تحت الجسر، وبعد ما تغير في المشهد منذ سنة 2001 وترسيم الأمازيغية سنة 2011، لم تجدد مكونات الحركة الأمازيغية قراءتها للواقع المغربي والدولي، واختلط لديها ما هو تكتيكي بما هو استراتيجي والغايات بالوسائل. هناك الكثير من ما يجب مراجعته في الخطاب الأمازيغي، بدءا بالسؤال المؤسس "من نحن؟" وصولا إلى تحديد "ماذا نريد؟". أهمية إعادة التفكير في سؤال الهوية نابع من حاجتنا إلى إجابات في خدمة بناء المواطنة والعيش المشترك في وطن ديمقراطي، إنه البوصلة التي بدونها قد نختار الطريق الخطأ في أحسن الأحوال والجحيم سبيلا في أسوئها. من شأن تلك المراجعات أيضا تخليص الحركة الأمازيغية من الأثقال الزائدة عن اللزوم، لا يمكنها أن تتحمل ملفات الحكم الذاتي والعلمانية وغيرها من الملفات التي زرعت في جسمها حتى أصبحت أشبه بحصان طروادة. الفاعل الأمازيغي اليوم أشبه بمن يريد تشغيل سفينة شحن كبيرة باستعمال محرك سيارة من الحجم الصغير.

تلكم بعض من عناصر التشخيص، وغير خاف على الجميع بأن الحركات التي لا تقرأ جيدا تفاصيل زمانها السياسي ولا تملك شجاعة مراجعة ما يمكن مراجعته ولا تبادر، تسقط تلقائيا في الإنتظارية وتبحث عن المبررات لتفسير عجزها عن حل أزماتها. علما بأن الأزمة ليست بالضرورة كارثة ومصيبة، فالكثير من المبادرات والأعمال الكبرى خرجت من رحم الأزمات.

عبد الله حتوس

*باحث وفاعل حقوقي