دخلت القضية السورية حالة من القلق والاضطراب إلى درجة بات معها السؤال المطروح: إلى أين يسير الأمر، هل يشير الوضع الراهن إلى مرحلة من «اقتسام النفوذ في سوريا» أم «إلى تقسيم لها»؟ والحق أن رباطاً يجمع بين السؤالين المذكورين، إضافة إلى أسئلة أخرى قد تكون دخلت في نطاق المرحلة السورية الراهنة، وأخذت تنثر الأسئلة حول المصير السوري، أي الذي يتصل بالمسألة الوطنية ديموغرافياً، وبالأحرى المرتبطة بالمسألة القومية. وبضبط أكثر اقتراباً، يبدو الأمر متصلاً بالسؤال حول ما إذا كانت مسألتا الوطنية والقومية، وذلك عبر المساءلة فيما إذا ظل تعريف سوريا بكونها الكيان الذي يضم السوريين أرضاً وشعباً أولاً، وعبر المساءلة الأخرى عما إذا كان تحديد القومية العربية بمثابتها الانتماء القومي التاريخي لسوريا.. أما السؤال الآخر فعما إن كانت الطائفية الدينية تعبيراً وجودياً عن كلتا البنيتين الوطنية والقومية.

إن تعاظم الخطاب الطائفي في هذه الأثناء لدى أوساط ثقافية وسياسية متعددة، تعبيراً عن كون الأمر لم يعد متصلاً بالأصلين الوطني والقومي اللذين برزا في الفكر العربي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وإلى مرحلتنا هذه المعيشة، بل يمكن ملاحظة أن أحد أوجه ذلك الخطاب كان موجوداً قبل نشأة الهويتين الوطنية والقومية على مستوى التنظير المعرفي والأيديولوجي.

في مواجهة ذلك كله سيكون من الخطأ اللجوء إلى السلوك العشوائي اللاتاريخي، الذي يلجأ إليه دعاة الطائفية، من موقع أن الطائفية مقترنة بما يعتبرونه أساس الحركة التاريخية أي «الطائفة العرقية» و«العقيدة الدينية». وبالمقارنة التاريخية يمكن أن يتضح أن «العرق» لا يوجد وحيداً دون إطار اجتماعي تاريخي، وأن الدين لا يلخص الوجود الإنساني المركب والمعقد بما يختزنه من عناصر وعوامل تتحدر من المجتمع البشري فقط، وإنما يدخل في صلب ذلك «المجتمع المدني».
هكذا نتمكن من تفكيك الطائفيين الدينيين بمثابتهم دعاة طائفة دينية متحجرة ضمن رؤية لاتاريخية.

والحال أن الهوية الوطنية والانتماء التاريخي القومي لا يمكن أن يُطاح بهما عبر تفسير مضطرب لمفهومي الطائفة الدينية والانتماء القومي، فإذا مشينا على هذه الطريق الوعرة وغير المؤصلة بتدقيق، واجهنا أمامنا معطيات أخرى تقود إلى ما هو مغاير للانتماء القومي وللهوية السورية. وحيثما نلجأ إلى هذا الأسلوب الملفق نجد أنفسنا أمام ما قد يرغب في الوصول إليه المتحدثون عن «اقتسام النفوذ في سوريا» و«تقسيم سوريا»، فبغض النظر عن كون القولين المذكورين إن هما إلا صيغة ملتسبة، فإن حداً من التحليل اللغوي يظهر أن اقتسام النفوذ في سوريا إن هو إلا اقتسام لسوريا على نحو يضمن النفوذ العسكري والسياسي.. إلخ، للقوى التي مشت حتى الآن على هذا الطريق، على الرغم من خلافات تظهر هنا أو هناك لتظهر أن استراتيجيات متعددة تعمل على امتلاك سوريا أرضاً وشعباً، وإن بطرق أخرى ملتوية تقتضيها السياسات الملتوية.

حقاً، إنه مفترق معقد يعيشه السوريون أمام عملية ابتلاع أيقونة الكون، سوريا، أي التي قدمت للبشرية ما تفخر به من إنجازات وحضارات! والمفارقة الخطيرة أن الوطن العربي برمته يعيش ما يكفيه من أنواع الصراعات والاضطرابات والمشكلات العصية، ويجد نفسه وجهاً لوجه أمام مصائب كبرى مغرقة في التشاؤم، على المحورين المحلي القُطري والقومي. ويحدث ذلك دون اهتمام كافٍ من إخوة منتمين لهذا الوطن بالمصائر التي قد يجد نفسه أمامها خالي الوفاض من طاقات الدفاع والبناء! هذا ناهيك عن السعي لتفكيك العالم العربي من أي جهة أتيته.

إن مفترق الطرق الحاسم الذي يقف السوريون أمامه مرشح لمزيد من الاضطراب والبؤس، عدا القتل والتدمير والتفكيك في أقطار عربية أخرى أو مناطق مهمة أخرى. ومن ثم فإن ما يواجه الأحداث السورية يمثل مشروعاً للتفكيك المفتوح والمستمر، ولذا فإن التنبه إلى سوريا الجريحة هو أحد المداخل الحاسمة إلى حماية الوطن العربي كله.