بداية سنة 1967، كان المغرب على موعد مع التمهيد لتحول تاريخي جديد، ببروز كتاب مؤثر كبير هو كتاب "معالم في الطريق" للشهيد سيد قطب، الكتاب الذي طبعه وروجه بالمغرب والعالم، الزعيم الوطني الراحل، علال الفاسي.

وقبل ذلك، وبانصرام شهور يوليوز، غشت، شتنبر 2016، يكون قد مر على وضع اللبنة الأولى لمشروع الحركة الإسلامية بالمغرب، ربع قرن بالتمام والكمال، بدءا من يوم فريد هو يوم 22 يوليوز 1966، الذي يبقى يوما تاريخيا محفورا في ذاكرة العارفين الخواص القلائل، الذين كانوا في نفس الوقت الجنود المجهولين الأخفياء في توليد الحركة الإسلامية من رحم الشعب المغربي، من نخبه العليا ومن طبقاته الدنيا، وكانوا من المؤسسين والرعاة الكبار لاستنبات نبتة المشروع الحركي الإسلامي، النبتة التي كانت آنذاك فسيلة هينة ضعيفة، لا يؤبه لها عند غراسها في صحراء المجتمع المغربي القاحلة من الفكر الإسلامي الحركي التنظيمي، ثم هي الآن حقول مترامية متنامية ممتدة، متنوعة الأشكال والألوان والأحجام.

إنه اليوم الذي حل فيه بأرض المغرب، ضيفا مرحبا به، مستقدما من الشرق، المفكر السوري الأصل، السياسي والداعية: الدكتور عمر صدقي بهاء الدين الأميري، المعروف لدى الأوساط الجامعية ولدى النخبة المثقفة والسياسية المغربية بـ: شاعر الإنسانية، والشهير لدى النخب الحاكمة والسياسية في العالم العربي والإسلامي بشخصيته السياسية الفذة، ووساطاته النافذة في حل الخلافات والصراعات السياسية بين الأطراف والفصائل الوطنية، وضلوعه في توجيه القضايا الكبرى للأمة الإسلامية.

الرجل الذي كان تلميذا روحيا خلال ثلاثينيات القرن الماضي للمفكر الإسلامي الأمير شكيب أرسلان، ملهم القادة المؤسسين للحركة الوطنية المغربية، والرجل الذي كان رفيق الشهيد حسن البنا المرشد العام المؤسس لحركة الإخوان المسلمين، بعضويته في مكتب الإرشاد الأول، وتمثيليته لقيادة الحركة بسوريا.

كانت هذه المهمة، مهمة استنبات الحركة الإسلامية بالمغرب، مطمحا غاليا لبعض كبار القادة الوطنيين بالبلاد، وبعض كبار العلماء، حينما عجزت الحركة الوطنية في جناحها المحافظ، والحركة العلمائية بجناحيها الرسمي والشعبي، أن تقاوم وتواجه المد الجارف والقاهر للتيارات الفكرية المتأثرة بالمنظومة الإيديولوجية الشيوعية والاشتراكية والماركسية الفائرة كالبركان من الاتحاد السوفياتي ومعسكره الشرقي ومن الثورة الصينية والكفاح الفييتنامي، خصوصا عندما تدثر هذا المد الثقافي الإيديولوجي بالصراع السياسي القائم آنذاك بين النظام السياسي للحسن الثاني، والجناح الراديكالي للحركة الوطنية، المناهض للملكية ونسقها السياسي الديني التقليدي ممثلا في صفة الملك الدستورية أميرا للمؤمنين، الصراع الذي كان يخوضه حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية مسنودا بالحركة السرية للحزب الشيوعي المغربي المحظور.

وهكذا نهض لهذه المهمة بالاتصال بالدكتور بهاء الدين الأميري واحتضانه واستضافته بالمغرب ثلاثة من كبار رموز ورجالات الحركة الوطنية، ومن القادة السياسيين بالبلاد، وهم الزعيم علال الفاسي مؤسس الحركة الوطنية ورئيس حزب الاستقلال، والدكتور عبد الكريم الخطيب قائد جيش التحرير المغربي، والرئيس الفعلي المؤسس للحركة الشعبية، ورئيس البرلمان المغربي المنحل، ثم المؤسس والقائد لحزب الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية؛ والحاج محمد الشرقاوي صهر الملك، الرمز الوطني المؤسس لحزب الشورى والاستقلال، وأحد أعضاء الوفد المفاوض لفرنسا على الاستقلال من قيادة حزب الشورى والاستقلال، ووزير الدولة في حكومة الاستقلال، ثم وزيرا للاقتصاد فوزيرا للتنمية ثم وزيرا للخارجية آنئذ، حينما كان أول من أخذ المبادرة في عرض استضافة الأميري، صديقه الحميم، منذ أيام العمل الوطني بمكتب القاهرة.

وفي هذه البدايات، تحولت منازل هؤلاء القادة الوطنيين، إلى مأوي لاجتماعات متتالية، تجمع نخبة الوطنيين المغاربة، من مثقفين وسياسيين ورجال أعمال، يستعرضون آراء مواجهة التحلل الفكري والعقائدي والأخلاقي الذي أغرق شباب البلاد، ويتدارسون سبل قيام الحركة الإسلامية.

ومن ثم كانت القناعة المهيمنة على تفكير علال الفاسي ورفاقه، هي أن البلاد في الحاجة القصوى إلى تأسيس حركة إسلامية منظمة، وكانت القناعة هي عينها التي شغلت تفكير أقطاب الحركة الإسلامية في العالم الإسلامي، ورموز الدعوة الإسلامية وأساطين الفكر الإسلامي عبر المعمور، هؤلاء وأولئك، لم يكن علال ليخلف لهم موعدا في أنشطتهم وروابطهم ومنتدياتهم الدولية، فقد كانوا يرون فيه مرجعا كبيرا تاريخيا للأمة الإسلامية، ويجمعون في قناعاتهم على أنه هو المؤهل المفرد لقيادة وتأسيس الحركة الإسلامية بالمغرب، ويناشدونه الاضطلاع بهذه المهمة النبيلة، لإنقاذ البلاد التي كانت تنزلق نحو هاوية الفكر المعادي للإسلام، المناوئ للدين والتدين، ولتخليص الشباب من براثن التيارات الهدامة.

غير أن علال كان يرى في التزامه السياسي بقيادة حزب الاستقلال، عائقا ذاتيا، يمانعه من النهوض بهذه المسؤولية، والتي كان مؤمنا بضرورتها حتى النخاع، على أنه لم يتردد في أخذ المبادرة المتجلية في تفجير ينابيع الحركة الإسلامية من صخرة قاعدة المجتمع، عندما عمد إلى طبع ونشر كتاب "معالم في الطريق" للشهيد سيد قطب، بداية سنة 1967، ومباشرة بعد تنفيذ حكم الإعدام فيه، في سابقة هي الأولى، استبق بها المغرب غيره من الأقطار في العالم.

فلم يكن ليفعل، كما ذهب عموم المراقبين، أنه فعل ذلك نصرة لمظلومية الشهيد سيد قطب، الذي كان صديقا حميما له، وإنما كان علال الفاسي يتقصد متعمدا أن يتفاعل كتاب المعالم مع عقول الشباب، فيكون بمثابة الكيمياء التي تفجر بمفعولها صخر العجز والجمود والهزيمة الفكرية، وبالفعل فقد كانت المبادرة ناجحة الأثر، وناجعة النفاذ، إذ كان كتاب المعالم، بمثابة الإنجيل المقدس لشباب الحركة الإسلامية، في كل أقطار العالم العربي والإسلامي، ونبراسا هاديا استنارت به قطاعات واسعة من شبيبة الأمة الإسلامية، وتمددت من خلاله رقعة العمل الإسلامي.

وقد كان علال الفاسي يرى ببعد نظره الثاقب أن كتاب المعالم الذي كان سبب استشهاد مؤلفه سيد قطب، لا يضاهيه كتاب في إلهاب الحماس الديني لدى الشباب، وفي غرس البعد الحركي التنظيمي في ثقافة العاملين في حقل الدعوة الإسلامية.

وفي المغرب تلقف المعالم بعض من الشباب، في بعض من المدن المغربية، وتشكلت بعض الأنوية حول الكتاب لمدارسته، واسترفاد الحمية الدينية من معانيه، غير أن هذا التفاعل بقي محدود الأثر، لعدم اكتمال شروط الوعي القيادي الحركي في نفوس أصحابه، إلى أن حانت ساعة الحسم في رسم مصير المغرب، الذي كانت المخططات العالمية الجهنمية تريد له اللحاق بالمعسكر الشيوعي، لكن كتاب المعالم الذي طبعه علال، فعل فعلته في خلاص المغرب المترنح المتأرجح، فكانت هذه السنوات الأخيرة من الستينيات مرحلة تحضيرية، رعاها أولئك الأعلام الوطنيون الكبار، بإرشاد وتوجيه من صديقهم المبجل، وأحد الرموز الكبرى للحركة الإسلامية في العالم، الدكتور الأميري، وأفضت هذه المرحلة إلى بروز تجارب التنظيم الحركي وانضواء الشباب الإسلامي المتدين في صفوفها بداية سنوات السبعينيات.

وبذلك تكون سنة 1966 ومطلع سنة 1967، المحطة التي انطلق منها قطار تأسيس الحركة الإسلامية بالمغرب، ويكون عمرها الزمني الآن هو ربع قرن.


 

عبد الله لعماري