يُفترض في الفلسطينيين ان لا يغشّهم القرار الصادر عن مجلس الامن الذي يدين الاستيطان الإسرائيلي. عليهم التفكير بطريقة مختلفة بعيدا عن الانتصارات الوهمية. سجل باراك أوباما نقطة على دونالد ترامب، لكن ترامب سيكون الرئيس المقبل للولايات المتحدة وصاحب القرار فيها، فيما سيكون أوباما في بيته. على الفلسطينيين التفكير في ان هذا ليس وقت المماحكات التي لا افق لها باستثناء تسخيف قضية شعب يبحث عن حقوقه المشروعة "غير القابلة للتصرّف" والمعترف بها من الامم المتحدة. في النهاية، هل يمكن البناء على القرار الجديد لمجلس الامن في حال بقيت إدارة ترامب ضدّه وانحازت كلّيا الى الموقف الإسرائيلي المتعجرف؟

لا بدّ من قول هذا الكلام بعد امتناع الولايات المتحدة عن استخدام "الفيتو" لدى طرح مشروع القرار الذي يدين الاستيطان الإسرائيلي في الضفّة الغربية. لا بدّ من قول هذا الكلام ايضا في وقت تشير عشرات المقالات التي صدرت في الصحف الاميركية أخيرا الى انقلاب منتظر لادارة دونالد ترامب على السياسة الاميركية التقليدية تجاه التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

يعطي فكرة واضحة عن هذا الانقلاب، الذي سيكرسّه الدعم الاميركي للاستيطان الإسرائيلي في الضفّة الغربية، تعيين الإدارة الجديدة لديفيد فريدمان سفيرا لها في إسرائيل. هذا ليس حدثا عاديا في ضوء ما يمثّله فريدمان رئيس "جمعية بيت ايل"، وهي مستوطنة تقع قرب رام الله. في بيت ايل مدرسة للبنات تحمل اسم السفير الاميركي الجديد الذي يعتبر حلّ الدولتين، أي وجود دولة فلسطينية مستقلّة، الى جانب دولة إسرائيل، مجرد "وهم". يذهب فريدمان الى حدّ القول ان السياسة الصحيحة الوحيدة هي تلك التي تقرّرها إسرائيل. يصف اليهود الرافضين للاحتلال الإسرائيلي بانّهم اشبه باليهود الذي تعاونوا مع هتلر وكانوا يسمّون "كابو".

لا يشبه الانقلاب المتوقع ان ينفّذه ترامب، الذي بدأ بالاعتراض على قرار ضد الاستيطان صدر عن مجلس الامن التابع للامم المتحدة، سوى ذلك الذي قام به باراك أوباما الذي تخلّى عن سياسية تقليدية أخرى للولايات المتّحدة تجاه دول الخليج وانحاز بوقاحة ليس بعدها وقاحة الى ايران التي عرفت كيف تمارس الابتزاز في ما يخصّ ملفّها النووي. اكثر من ذلك، ضحّى أوباما بالشعب السوري وبكل القيم الانسانية من اجل استرضاء ايران. ايّد مشروعها التوسّعي القائم اوّلا وأخيرا على الاستثمار في الغرائز المذهبية في كلّ دولة من دول الخليج، إضافة بالطبع الى العراق وسوريا واليمن.

منذ نهاية عهد بيل كلينتون في بداية السنة 2001، لم يعد من اهتمام أميركي يذكر بالشرق الاوسط وذلك على الرغم من انّ العرب سعوا الى كسر الحلقة المغلقة التي دخلت فيها التسوية منذ فشل قمّة كامب ديفيد بين بيل كلينتون وياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، وايهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتذاك، صيف السنة 2000.

جاءت غزوتا نيويورك وواشنطن اللتان وقفت خلفهما "القاعدة" بقيادة الإرهابي اسامة بن لادن لتأخذا جورج بوش الابن الى مكان آخر. كان بوش الابن في بحث دائم عن عذر للابتعاد عن كلّ ما له علاقة من قريب او بعيد بفلسطين. لم تنفع كلّ الجهود المبذولة لاقناع إدارة بوش الابن بانّ هناك شيئا اسمه قضية الشعب الفلسطيني الذي يحقّ له ان يجد مكانا طبيعيا له على خريطة الشرق الاوسط. صارت مبادرة السلام العربية، التي كان في أساسها الملك عبدالله بن عبدالعزيز، رحمه الله، (وليّ العهد وقتذاك) والتي اقرّتها قمة بيروت في السنة 2002 في خبر كان بعدما ادارت لها إسرائيل ظهرها، فيما قرّرت الإدارة الاميركية تفادي أي تعاط مع هذا التطور التاريخي الذي كان يمكن ان يوفّر تغطية عربية لتسوية شاملة في المنطقة.

جاء الاجتياح الاميركي للعراق والزلزال الذي نتج عنه والذي ما زالت تداعياته وارتجاجاته تتردّد الى اليوم، ليغيّر الاولويات العربية في المنطقة. في اليوم الذي قدّمت فيه إدارة بوش الابن العراق على صحن من فضّة الى ايران، في 2003، لم تعد فلسطين القضية الاولى للعرب. كلّ من يقول عكس ذلك وينادي بتحرير القدس في هذه الايّام، انّما يسعى الى المتاجرة بفلسطين والفلسطينيين لا اكثر. هناك من يريد ان يضحك على الفلسطينيين واستخدام قضيّتهم للمزايدة على العرب ليس الّا. هذا ما تفعله ايران هذه الايّام وهذا ما فعله النظام السوري في كلّ وقت من اجل تغطية قمعه للشعب السوري باسم "المقاومة" و"الممانعة" ولتغطية كونه نظاما اقلّويا يقتات من تسليم مؤسّسه حافظ الاسد الجولان لإسرائيل في العام 1967، عندما كان الأسد الأب لا يزال وزيرا للدفاع.

جاء وقت تغيير اميركا سياستها التقليدية. لا شيء يمنع دونالد ترامب من ذلك. ليس تعيين ديفيد فريدمان سفيرا في إسرائيل واعلانه صراحة انّه ينوي نقل السفارة الى القدس سوى تتويج لتراكمات تجمّعت منذ ما يزيد على ستة عشر عاما ادّت الى الوصول الى المرحلة الراهنة التي لم يعد فيها سوى الملك عبدالله الثاني يشدّد بين حين وآخر على اهمّية قيام الدولة الفلسطينية المستقلّة وذلك حفاظا على القضية الفلسطينية من جهة وحماية للامن الأردني من جهة أخرى. هناك وعي اردني لخطورة ما يجري في فلسطين. يكشف هذا الوعي كم كان عبدالله الثاني بعيد النظر في توجيه التحذير تلو الآخر من استمرار الجمود ومن متابعة بنيامين نتانياهو، الذي يمثّل صعود اليمين الإسرائيلي، سياسة الاستيطان.

في السنة 2017، لن يعود من فارق بين دونالد ترامب وبنيامين نتانياهو. الرئيس الاميركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي يمتلكان هدفا واحدا يعبر عنه السفير الاميركي الجديد في إسرائيل. يتمثّل هذا الهدف في ان الاستيطان امر طبيعي. هناك افراد من عائلة ترامب يتبرّعون سنويا لمستوطنة بيت ايل من دون أي عقدة من ايّ نوع كان. بالنسبة الى هؤلاء لا وجود لشيء اسمه قرارات الامم المتحدة التي تعتبر الضفّة الغربية والقدس الشرقيّة ارضا محتلّة.

مؤسف ان لا تكون القيادة الفلسطينية اخذت علما بذلك. تتلهى هذه القيادة، كما ظهر من المؤتمر الأخير لحركة "فتح" بالقشور وتصفية الحسابات ذات الطابع الشخصي مع هذا القيادي "الفتحاوي" او ذاك.

هذا ليس وقت تصفية الحسابات واختلاق المعارك التي لا افق لها. هذا وقت استيعاب ان هناك تغييرا في العمق داخل الولايات المتحدة لمصلحة إسرائيل. يشمل هذا التغيير اعتبار احتلال الضفّة الغربية امرا مشروعا. هناك ضرب بالحائط لكلّ ما تمثّله الشرعية الدولية، بما في ذلك قرارات مجلس الامن.

هناك بكلّ بساطة رئيس أميركي لا يريد ان يعرف شيئا اسمه فلسطين والقضية الفلسطينية والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني المعترف بها من الامم المتحدة.

ليس لدى العرب الوقت الكافي للاهتمام بهذا الموضوع. ليس لديهم أي وسيلة ضغط على دونالد ترامب. لديهم همّ آخر فرضه التحدّي الايراني الذي بات يهدّد امن كل مجتمع عربي. هذا واقع لا مفرّ منه، ولكن هل مسموح للقيادة الفلسطينية التعاطي بروح اللامسؤولية مع هذا التطور الخطير؟

اذا لم يكن لدى هذه القيادة ما تفعله، لتقل ذلك صراحة للفلسطينيين بدل الهرب الى معارك داخلية لا طائل منها تركزّ على هذا الشخص او ذاك. هذه معارك لا تؤدي الى أي نتيجة. انّها بكل بساطة دليل على افلاس ليس بعده افلاس من جهة وعجز عن مواجهة الهجمة الجديدة على فلسطين من جهة أخرى. يحدث ذلك في وقت قرّرت الولايات المتحدة التي اصبح رئيسها دونالد ترامب الاستسلام لليمين الإسرائيلي لا اكثر ولا اقلّ!

 

خيرالله خيرالله