من يعيش المأزق اليوم حول صحة الأخبار، ليس المأزق في الإجابة على هذا السؤال، ثمة مأزق في إطلاق السؤال نفسه، لأن وسائل الإعلام التقليدية ترفع صوت الاتهام لوسائل التواصل الاجتماعي بترويج الأخبار الزائفة مرافقا لمثل هذا السؤال.

“إنها جميعا وراء الأخبار الزائفة…! ومن غيرها فيسبوك وتويتر وغوغل….!”. مثل هذا الاتهام أشبه بحقنة إنعاش مؤقتة لوسائل الإعلام التقليدية للتشبث به، وهي تعيش الوهن في سوق الصحافة المريضة، لكنه في كل الأحوال ليس السبب في تراجع اهتمام القراء بالصحف، بروز مواقع التواصل بوصفها منصة إخبارية وليس تبادل كلام المقاهي والحانات ونشر القصص الوهمية في القيل والقال، ما يقلق الصحف.

بالأمس، أطلق أحد كبار العاملين في القناة التلفزيونية البريطانية الرابعة، ما يشبه السهم الناري من دون أن يصل إلى هدفه، بل إنه توجه إلى عدة أهداف في وقت واحد ومن دون أن يختار مسبقا هدفه، فكان فيسبوك وغوغل وتويتر في ذهن دان بروك عضو مجلس الإدارة في القناة التلفزيونية الرابعة، وهو يحذر من أن الأخبار الزائفة يمكن أن تربك الديمقراطية قبل الانتخابات البريطانية.

وطالب دان الحكومة البريطانية بالتدخل إن لم تتحرك إدارة فيسبوك وشركات الإنترنت الأخرى لعمل المزيد من أجل إيقاف حشد الأخبار الوهمية، فهي حسب وصفه تتجنب تحمل المسؤولية عن ذلك، ومن شأن هذه الأخبار الوهمية حرق الديمقراطية في بريطانيا، إذ ثمة شرر اندلع في الولايات المتحدة ومازالت تداعياته متصاعدة.

بسّط دان بروك الأمر وهو يتحدث هذا الأسبوع في منتدى وسائل الإعلام في لندن، بالقول إن تلك المنصات الكبرى تزعم بأنها شركات تكنولوجية، وليست وسائل إعلام، وبالتالي إن تنظيم المحتوى الإخباري ليس من مسؤوليتها، معتبرا أن مثل هذا التسويغ ليس كافيا بقدر ما، ويضع تلك الشركات أمام المسؤولية.

في الوقت نفسه لم تتردد إدارتا شركة غوغل وفيسبوك بالإعلان عن أنهما تعملان على إيجاد سبل للقضاء على الأخبار الوهمية ووقف انتشارها. ووصل الأمر إلى أن المدير التنفيذي مارك زوكربيرغ وصف القول إن فيسبوك أثر على نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية، بالفكرة المجنونة.

لكن ميغان كيلي المذيعة في قناة “فوكس نيوز″، اعتبرت أن الأمر ذو صلة بثقة الجمهور المتراجعة بوسائل الإعلام، ثمة فجوة تتصاعد بين الطرفين فالجمهور لم يعد يصدقنا، الأميركيون مثلا لم يعودوا يبالون بكل ما تكتبه الصحف، وهذا مؤشر خطير ومقلق، ليس للصحف فحسب بل لفكرة المسؤولية والحساسية العالية في صناعة الخبر ولحرية إشاعة المعلومات الصحيحة.

لم يعد ما ينشر على المنصات الاجتماعية مجرد كلام مقاه وحانات حسب وصف المحاور البريطاني الشهير جون همفريز، لأنه يرى أن ما يتداوله الناس يوميا على فيسبوك وتويتر لا يمكن التعويل عليه بأي حال من الأحوال بوصفه إعلاما.

والشروط الإعلامية المفقودة في هذا المحتوى المتداول على مواقع التواصل، صار موضع جدل أكبر من أن يصنف بكونه إعلاما أم لا، لأن تأثيره فاق التوقع وأثر على الجمهور وغير مزاجه، ووصل حد إرباك الديمقراطيات الكبرى.

وسائل الإعلام التقليدية لم تعد تتحدث عن السباق مع الإعلام الرقمي، بل عن خشيتها من نوعية المحتوى الإخباري الذي بات يتداوله الجمهور من تلك المنصات الاجتماعية بغض النظر عما إذا كان زائفا أم لا، غير عابئ بما تصنعه الصحف من قصص إخبارية وتحليلات واستبيانات.

ووصلت الاتهامات إلى أكبر من ذلك بشأن القصص الكاذبة ومن يقف وراءها، الإعلام التقليدي أم وسائل التواصل الاجتماعي، انظر ماذا قال نيوت غينغريتش مستشار دونالد ترامب، معلقا على مثل هذا الجدل المتصاعد “إن فكرة قلق صحيفة نيويورك تايمز حول الأخبار الزائفة هي فكرة غريبة للغاية، إن صحيفة نيويورك تايمز هي الأخبار الزائفة ذاتها”.

بينما كتبت روث ماركوس في صحيفة واشنطن بوست “مع كون الحقائق من الموضات القديمة، فإن الخطوة التالية التي لا ترحم سوف تكون الحد من كل الأخبار إلى نفس المستوى من عدم الثقة وعدم التصديق، وإن لم يكن هناك ما هو صحيح، فيمكن لكل شيء أن يكون كاذبا”.

الصحافيون كانوا وحدهم من يكتب المسودة الأولى للتاريخ قبل أن تمر على حشد المراجعين، ولم يعد مثل هذا التفرد قائما بعدما أنزل المواطن الصحافي، الصحافي من برجه العالي، ولم يعد بمقدور مراجعي مدونات التاريخ تحمّل كل هذا العبء الهائل المتدفق من مواقع التواصل الاجتماعي في المراجعة الحصيفة، وهذا يعني أن التاريخ سيصبح كذبة كبيرة أيضا.

إذا كان الرؤساء الديمقراطيون يفضلون صحفا من دون حكومة على حكومة من دون صحف، وهو تفضيل مثالي للغاية يصعب تحقيقه في الواقع، يبدو العالم اليوم أمام خيار ديمقراطي آخر مرتبط بمواقع التواصل الاجتماعي، هل يمكن بمقدور العالم التراجع عن وجود فيسبوك وتويتر؟

 

كرم نعمة