أصبحنا نحتل، ولله الحمد، آخر المراتب في مؤشرات الوعي والمعرفة وجودة العملية التعليمية برمتها، ناهيك عن مكانة جامعاتنا في الساحة الدولية وما تسهم به من بحوث علمية في شتى المجالات. هل الأمر مثير للسخرية؟ لا، إنه مثير للشفقة ويستوجب منا لحظة تأمل ومراجعة لتقييم الوضع الراهن وقراءة الواقع قراءة سليمة ومستمرة تتكشف يوما بعد يوم.

فهل حقا لا توجد لدينا إرادة حقيقية لإصلاح قطاع بهذا القدر من الأهمية؟ هل نفتقد إلى النوايا الصادقة؟ هل تنقصنا الخبرة والكفاءة؟ أم أن المشكلة في الأساس هي مشكلة هوية وثقافة؟ هل غاب عنا الهدف وبالتالي فقدنا الدافع والمحفز للنمو والتقدم؟ أسئلة كثيرة تسابق الخطى لطرحها وكأنها أصبحت بديهية ولا تحتاج إلى كثير من التفكير والرّوية.

أحيانا يكون مفيدا تحليل المعطيات والحديث عن أسباب الفشل والنجاح. ولكن، حين يتم ذلك بعيدا عن الميدان والمشاركة الفعلية، وبنهج تعلمي، يصعب علينا قراءة الواقع بشكل سليم وبالتالي يكون تحليلنا نظريا صرفا ولا يرقى لمستوى التقييم الواقعي للموقف. ثم إن عملية المراجعة والتقييم والتخطيط هي مسألة عضوية، ومن المفروض أن تكون دورية وتتم باستمرار لكي تلائم المتغيرات والمستجدات، ولا يمكنها أن تكون فقط حدثا عابرا قلما يتكرر. ومن جهة أخرى، يجب ألا تأخذ منا الكثير من الوقت لكيلا تصبح هدفا في حد ذاتها وتشل السير الطبيعي لعملية النمو. فقد نمضي شوطا جديدا في دراسة الأسباب وتحليلها، لكن القطار يمضي ولا يتوقف كثيرا عند كل محطة وفي كل حين. فما الجدوى من معرفة المسببات معرفة دقيقة إذا كنا سنفوت ركوب القطار ونبقى في المحطة جالسين، نتطلع بحزن وحسرة إلى بقية المسافرين.

فمن المسؤول عن الوضعية الراهنة: الدولة بمؤسساتها، المجتمع بثقافته، أم الفرد بمساهماته؟ أو ربما الثلاثة معاً؟ فهم أنصار عملية النمو ولا يمكننا أن نستثني أحدا منهم. ولذلك، فالحديث المستمر عن دور الدولة ومسؤوليتها عما يحدث بشكل انتقائي هو جزء أساسي من المشكل وغالبا ما يكون السبب في احتقان الوضع وبروز أزمة ثقة بين الفرد ومؤسساته تهدد وحدة المجتمع واستقراره. فربما يتوجب علينا، أولا وقبل كل شيء، إعادة هذه الثقة إلى مكانها الصحيح والعمل بشكل تضامني يشمل الأنصار الثلاث لعملية النمو والتطور.

فإذا كانت الدولة مسؤولة عن وضع الخطط والمناهج التعليمية وتوفير المؤسسات التي تعنى بهذه العملية وكذلك تكوين الأطر والموارد البشرية الضرورية، فإن المجتمع وأفراده مطالبين بالانخراط الكلي في هذا المشروع من خلال الدعم اللامشروط لهذه المؤسسات والعمل على زيادة الوعي الجماعي بأهمية التعليم واكتساب المعرفة والمساهمة بمبادرات فردية تطوعية تجعل من العملية التعليمية قضية اجتماعية وليس فقط تدبيرا للشأن العام.

ونحن إذ نشارك في انتخاب أعضاء المؤسسات التشريعية، رغم ما تعتريه العملية الانتخابية من اختلالات ونقائص فهي أيضا تنمو وتتطور، نساهم في تحسين أدائها والرفع من جودتها من خلال اختيارنا الصحيح لمن هم أهل لهذه المسؤوليات الجسام. كما أن هناك مؤسسات موازية تتشكل من الفاعلين داخل المجتمع المدني يمكننا أن ننخرط فيها لأنها بدورها تساهم في صناعة القرار. لذلك فإن دورنا كأفراد يحتل حيزا مهما، بل محوريا، في عملية النمو سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

وهذا الدور يبدو جليا حين يتعلق الأمر بالتربية الأخلاقية والتربية على القيم، والرفع من مستوى الوعي والثقافة، والنهوض بالعملية التعليمية بكافة مراحلها. فنحن مطالبون قبل الجميع بتعليم أبنائنا، ومسؤولون عن تربيتهم على الأخلاق والقيم ومرافقتهم خلال مسيرتهم التعليمية. فهل نكون مستعدين لتحمل هذه المسؤولية حين نقدم على الزواج وعلى الإنجاب؟ وهل نسعى جاهدين لتعلم هذه الوظيفة الطبيعية في وقت أصبحت فيه المعلومة في متناول الجميع؟ وما هي اللغة التي نستعملها في بيوتنا ويتربى عليها أطفالنا؟ وكيف هو حال القيم والأخلاق لدينا قبل الحديث عن إصلاح المناهج التعليمية؟ وكم مرة نهدي أطفالنا كتبا بدل ألعاب القتال والهواتف الذكية؟

ونحن أيضا مسؤولون عن اختياراتنا المهنية، وليس أصعب من أن تكون أستاذا أو معلما. فهذه ليست مجرد مهنة أو وظيفة نلجأ إليها من باب الصدفة أو حين يستعصي علينا غيرها، إنها عن حق مهمة اجتماعية وإنسانية عظيمة تحتاج إلى شغف لا ينضب وإلى إحساس كبير بالمسؤولية. لذلك وقبل الحديث عن دور صناع القرار ومسؤوليتهم علينا أن نتساءل أولا أين نحن كآباء وكمعلمين من هذا الدور العظيم؟

إن بناء مجتمع سليم يحتاج فعلا إلى تعليم سليم برؤية واضحة ومنهاج قويم. لكن هذا لا يتأتى بترديد الشعارات فقط، بل بانخراط المجتمع بكل شرائحه وفئاته في عملية التعلُّم هذه معتمدين على وحدة الرؤية والهدف في موضوع يهمنا جميعا، ومثمنين كل الجهود المبذولة بعيدا عن الانتقاد العشوائي وهيمنة مشاعر العجز والإحباط والسلبية. فليست هناك صيغة جامدة ومحددة لما يجب القيام به، لكن هناك طريقة واحدة لتغيير هذا الوضع الحزين وهي العمل جنبا إلى جنب بصبر ومحبة بما فيه خير الوطن والعالمين.

 

محمد منصوري