يُمْكن أن تَكُون البداية تجربة بمدينة الراشيدية في عَلاقة جَمْعيات المُجْتمع المدني بتدبير المَجَال البيئي، فبَعدما كانت تضيع من البلدية ميزَانية مُهمة لصيانة حَدَائق الأحياء دُونَ أي فائدة حَيْث يتم إهْمَالها وتَدْميرها، تم عقد اتفاقيات شراكة مع جمعيات الأحياء، من أجل تهيئة حدائق الأحياء.

وطَبْعا الغرض من تكليف الجمعيات بحدائق الحي وفضاءاته العمومية، هو إشراك الساكنة بشكل مُباشر في الاهتمام بمحيطها بنفسها، حيث لم يَتم تَسْجيل أي اعتداء على الأشجار أوعبث بالأغراس والورود والعُشب كما كان في السابق.

هَذه واحدة من التجارب المغربية الكثيرة التي يُمْكن تعميمها على باقي المدن المغربية، وبإمكانها مُسَاعدة الجماعات الترابية من خلال توعية المواطنين والمواطنات لحماية المَشَاريع التي تتعلق بتهيئة المجال البيئي ومحاربة التلوث، كما أن مثل هَذه الشراكة تعزيز الأدوار التي خولها دُسْتور المَمْلكة المغربية لسنة 2011 للمُجْتمع المَدني في صناعة القرار، حيث تم وضع مجموعة من الآليات القانونية رَهن إشارة المُجتمع المَدني بالمغرب من أجل الاضطلاع بأدوار طلائعية في مجال حماية البيئة ومكافحة التغيرات المُناخية.

قَبل بسط أهم ما جاء في هذه الترسانة القانونية، لابد من الإشارة إلى أن ظاهرة العمل الجمعوي بالمغرب، حديثة وترتبط بسيرورة التمدين التي شهدها المجتمع المغربي منذ الفترة الاستعمارية، غير أن الدولة لم تبدأ في تفويض جزء من سُلطاتها التي تمسك بها لفائدة المجتمع المدني إلا في السنوات الأخيرة، ورغم ذلك يظل تنازلا في دوائر ضيقة، ويكفي القيام بعملية مسح سريعة لمجال اشتغال عشرات الجمعيات التي تنشط في مجال البيئة ضمن أزيد من 130 ألف جمعية توجد بالمغرب، لنجد أن عمل أغلبها يقتصر على تنظيم حملات للنظافة، وخرجات للأطفال وأنشطة أخرى، لا ترقى إلى مستوى عقد شراكات تملك فيها الجمعيات تفويضا من الدولة للقيام بمثل هذه الأعمال.

لا تتحمل الدولة مسؤولية ذلك لوحدها، إذ يتقاسم ذلك معها منظمات المجتمع المدني التي لم تنجح إلا في حالات قليلة في أن تكون سلطة مضادة، وهذا راجع إلى ضعف مؤهلاتها وراجع أيضا إلى غياب الآليات القَانونية لتقوم جمعيات المجتمع المدني والمواطنين بدور الفاعل الجديد القادر على المشاركة في صناعة القرار العمومي.

لكن بعد توافر ترسانة قانونية تتعلق بتفعيل الديموقراطية التشاركية تجعل من المُجتمع المدني الذي يشتغل في مجال البيئة على سبيل المثال، قادرا على ممارسة "الضغط" على الدولة وعلى باقي الفاعلين من أجل توفير بيئة سليمة للمواطنين، إذ لايكفي تنظيم وقفات احتجاجية والقيام بحملات نظافة هنا وهناك، بل أصبح الفاعل المدني (جمعيات ومواطنين) مدعوا إلى الإسهام في تعديل القوانين المتعلقة بالبيئة، إذ كان بإمكان المجتمع المدني أن يكون سباقا قبل البرلمان والحكومة إلى الدعوة إلى إصدار قانون يحظر الأكياس البلاستيكية، ولا يكفي بالدعوة إلى ذلك بل يعكف على إعداد مسودة مقترح قانون، ويتصل بالبرلمانيين وأعضاء الحكومة و"يضغط" بصفته ضميرا للمجتمع من أجل إخراج قوانين تخدم المواطنين، وفي هذا الصدد يمكن التساؤل عن سبب وقوف المجتمع المدني مكتوف الأيدي وهو يتابع فضيحة استيراد أطنان من النفايات الإيطالية وحرقها في معامل الإسمنت ؟ ولماذا لم يطالب بتخفيض أسعار الأدوية قبل أن تبادر الحكومة بذلك، وغيرها من القضايا التي لا يمكن أن يترافع فيها سوى جمعيات مؤهلة وقادرة على التكتل وتشكيل "لوبي" حقيقي بإمكانه أن يكون جماعة ضغط تستعمل الوسائل القانونية المتاحة لإحراج البرلمان والحكومة.

فما هي هذه الوسائل التي يمكن أن يتسلح بها الفاعل المدني من أجل مواجهة التغيرات المناخية ؟

فَتح باب التشريع في وجه المواطنات والمواطنين

خول دستور المملكة المغربية لسنة 2011 للمُواطن أدورا مهمة في صناعة القرار العمومي، ففي سابقة على مستوى العالم العربي، أصبح من حق المواطنات والمواطنين المغاربة، تقديم ملتمسات في التشريع وعرائض إلى السلطات العُمومية، وهي من الحقوق الدستورية التي جَاءت بها المراجعة الدستورية بَعد الحراك الشعبي لـ20 فبراير 2011، ومن شأن ذلك جعل المُوَاطن في قلب اتخاذ القرار من خلال ممارسة حقه الدستوري الذي تكفله له مقتضيات القانونين التنظيميين اللذين يعتبران من القوانين المكملة للدستور، ويتعلق الأول بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع، والثاني بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم العرائض إلى السلطات العمومية.

وإذا كان هَاذين القانونين التنظيميين، يشكلان ثورة حقيقية على مستوى تفعيل الديمقراطية التشاركية، وتصحيح العلاقة التي تربط الدولة بالمجتمع، فيُمْكن استخدام آلية تقديم ملتمسات في التشريع من قبل المواطنين في مجال مواجهة التغيرات المناخية لتمكينهم من اقتراح قوانين جديدة أو تعديل أخرى قائمة أو إلغائها على غرار المبادرة في التشريع المخولة لكل من الحكومة والبرلمان.

كما يمكنهم أيضا اللجوء إلى آلية تقديم العرائض إلى السلطات العُمومية من أجل حقهم في بيئة سليمة، وبهذه الآلية تم القطع مع مرحلة كان يقدم فيها المواطنون شكايات واستعطافات إلى الإدارة، حيث يكون مصيرها في نهاية المطاف سلة المهملات، وتدشين مرحلة جديدة يتم فيها تقديم العرائض الشعبية إلى السلطات العمومية التي تجد نفسها ملزمة دستوريا وقانونيا بتقديم الجواب في آجال محددة ومضبوطة، وفق مسار تنظمه عدد من القواعد القانونية والتنظيمية، ومن شأن ذَلك تعزيز المزيد من الثقة بين الإدارة والمواطن.

مَشَاريع قوانين مساعدة تنتظر الإفراج

من الآليات القانونية التي يمكن للمُجتمع المدني الاستناد إليها من أجل الانخراط الفعال في مواجهة التغيرات المناخية، ما يتوقع الفاعل المدني الإفراج عنه من منظومة قانونية مُتكاملة، وتضم عدة مشاريع قوانين رائدة من بينها مَشروع قانون إطار للتشاور العمومي يلزم بدرجات متفاوتة مؤسسات الدولة بالاستشارة مع الفاعل المدني، إلى جانب مشروع مدونة الحياة الجمعوية التي أخذت مسارها التشريعي قبل سنة، وبكل تأكيد بعد إخراجها إلى حيز الوجود ستشكل نقلة نوعية في ما يربط الدولة بجمعيات المُجتمع المدني، ومساهمة هذا الفاعل الجديد في مواجهة التهديدات والأخطار التي تواجه كوكب الأرض على الأقل على مستوى التراب المغربي.

كل ما سبق يتعلق بالآليات القانونية الموضوعة رهن إشارة المواطنين والمواطنات على المستوى الوطني من أجل المساهمة في التشريع، والضغط بطريقة قانونية على باقي الفاعلين في الدولة، كما توجد ترسانة قانونية تتضمنها القَوانين التنظيمية التي هي قوانين مكملة للدستور وتتعلق بالجماعات الترابية، ويمكن الحديث في هذا الصدد عن الآليات التشاركية للحوار والتشاور التي من شأنها تكريس الديمقراطية التشاركية.

الآليات التشاركية على المستوى الترابي

ينص الفصل 19 من دستور 2011، على أن الجمعيات تساهم في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، إلى جانب تفعيلها وتقييمها، وبالنسبة للمشاركة المواطنة على المستوى الترابي فينص الفصل 136 من الدستور على أن التنظيم الجهوي والترابي للمملكة المغربية يُؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة، كما تنص مقتضيات الفصل 139 من الدستور على أن مجالس الجماعات تحدث آليات تشاركية للحوار والتشاور لتيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في إعداد برامج العمل وتتبعها طبق الكيفيات المحددة في النظام الداخلي للجماعة.

حق تقديم العرائض على المستوى المحلي

يتأسس هذا الحق على أحكام الفقرة الثانية من الفصل 139 من الدستور والذي بمقتضاه يمكن للمواطنات والمواطنين والجمعيات أن يقدموا وفق شروط محددة، عَرائض يكون الهدف منها مطالبة المَجلس بإدراج نقطة تتدرج في صلاحياته ضمن جدول أعماله. كما تم تحديد شُروط كيفيات تقديم الجمعيات العرائض، ومن بينها أن يكون نشاطها مرتبطا بموضوع العريضة مما يدعو المواطنين والمواطنات الراغبين في التطوع للمُساهمة في مواجهة التغيرات المناخية تأسيس جَمعيات تشتغل في المجال البيئي.

أما عن كيف يمكن للمجتمع المدني مواصلة تعبئة مُكوناته لما بعد قمة كوب 22 للإسهام في بلورة أفكار حول الحلول الكفيلة بإرساء استراتيجيات مشتركة لمُواجهة هذه التغيرات والحد من آثارها السلبية، فإلى جانب هذه الآليات القانونية لا بد من تمكين المجتمع المدني من حقه في الحصول على المعلومات، كما ينص الفصل 27 من الدستور على الحق في الحصول على المعلومات كما يحدد الهيئات المعنية بذلك ويضع التوجيهات العامة الخاصة بالاستثناءات المقيدة لذلك الحق ويحيل بالنسبة للباقي إلى القانون، وأيضا يجب اعتماد نظام التشبيك وتجميع الجمعيات العاملة في مجال البيئة حتى لا تتشتت جهدها، كما يجب تأهيل الفاعل المدني ليكون قادرا على التعامل بندية مع الشركات الكبرى التي تتسبب في التلوث، وأيضا تسهيل ولوج جمعيات المجتمع المدني إلى القضاء وتنصيب نفسها طرفا مدنيا للترافع في قضايا البيئة، وأيضا إشراكها في مناقشة القوانين المتعلقة بالبيئة والمَعْروضة البرلمان، وتمكينها أعضائها من حضور أشغال اللجان البرلمانية لتكون على دراية بمسطرة التشريع المتعلقة بالقوانين المتعلقة بالبيئة، كما أنه من المفيد تخصيص برامج في الإعلام العُمُومي لمواكبة عمل الجمعيات العاملة في البيئة وعدم الاقتصار على تسليط الضوء عليها بشكل مناسباتي فقط.

حسن الهيثمي

*باحث في سلك الدكتوراه بكلية الحقوق سلا