عرف المغرب خلال الأسابيع الأخيرة جدلا سياسيا محموما، بدأ منذ الإعلان الرسمي عن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة وتعيين الأستاذ عبد الإله بنكيران وتكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة، وقد تمركز هذا النقاش السياسي بالأساس حول التحالفات وأسس تشكيل الأغلبية البرلمانية الجديدة وحظوظ النجاح والفشل في ذلك.

وبالموازاة مع النقاش الدستوري الذي استمر طيلة هذه الفترة، تابع الرأي العام المغربي مجموعة من الخرجات الإعلامية التي استهدف البعض من خلالها طرح "أمنياته السياسية" وحاول تغليفها بقاعدة دستورية على الرغم من أن الكثير من الأفكار حاولت الالتفاف على النص الدستوري أو إيجاد تأويلات غير دستورية من أساسها، وأصبح الدستور المغربي في حد ذاته رهين المواقف السياسية والحزبية وليس العكس، وهو ما ينذر "بفوضى سياسية" قد تتحول في أي وقت إلى "فوضى في الممارسات الدستورية".

فعدد من المواقف السياسية والحزبية كان يتم تصريفها إما بالدعوة الصريحة إلى التعديل الدستوري مباشرة بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، أو عبر فسح المجال لتأويلات متضاربة، جعلت الوضع في الوهلة الأولى يبدو للرأي العام وكأنه صراع سياسي حول من يجب أن يترأس الحكومة أو من يتحكم في تشكيلها؛ وذلك قبل أن يتحول الاهتمام إلى مجال التفاوض حول التوجهات العامة لتشكيل الحكومة والمحاور الكبرى لهندستها ولبرنامجها الحكومي.

كما ساهم أيضا في هذه الفوضى السياسية والحزبية بعض الصحافيين الذين أصبحوا إما "منجمين" سياسيين بتأكيدهم على أن رئيس الحكومة سيقتصر في تحالفاته على هذا التكتل الحزبي أو ذاك، أو حاولوا حشر مواقفهم الذاتية في السلوك الحزبي نفسه وكأنهم أصبحوا بمثابة "أطراف سياسية" تضغط عبر وسائلها الإعلامية على رئيس الحكومة المعين للتحالف حصريا مع هذا الطرف ضد الطرف الآخر، أو لاستبعاد طرف سياسي آخر، أو حتى "استثارة نعرات سياسية" داخل حزب العدالة والتنمية تساهم بشكل مباشر في تعميم هذه الفوضى السياسية والدستورية.

وأمام هذه الفوضى في "الفتاوى" السياسية التي تعرفها الساحة السياسية بالمغرب، والتي يمكن أن تؤدي إذا ما انسقنا وراءها إلى "فوضى دستورية" غير محمودة العواقب، يحتاج الرأي العام أكثر من أي وقت مضى إلى نقاش قانوني ودستوري حقيقي وهادئ، بعيدا عن المواقف السياسية والحزبية التي غالبا ما تكون موسومة بالتشنج والانفعالية والرغبة في "احتلال المواقع السياسية"، وهو ما يغيب النقاش الدستوري الفعلي ويجعل الوثيقة الأساسية للمملكة عرضة للأهواء السياسية.

فعلى الرغم من أن الخطاب الملكي ليوم سادس نونبر 2016 كان قد وضع مجموعة من القواعد الكبرى المحددة لطريقة تشكيل الحكومة الجديد، فإن "أصحاب الفتاوى الدستورية الشاذة" استمروا في الخروج بالتأويلات الغريبة المنافية للأحكام وللممارسات الدستورية المتعلقة بدور السلط والعلاقات بين بعضها البعض، ولأسس تشكيل الحكومة وقواعد وضع هندستها والمبادئ المتحكمة في صياغة البرنامج الحكومي. وهي كلها محاور مؤسِّسة تشكل منظومة متكاملة ضمن الوثيقة الدستورية وتوضح بجلاء مجال تدخل هذه السلط والمؤسسات الدستورية، سواء أثناء تشكيل الحكومة أو بخصوص آثارها الدستورية ومسار التعيين الملكي والتنصيب البرلماني.

وعلى هذا الأساس يتعين الرجوع إلى القواعد الدستورية المتحكمة في هذه اللحظة الحاسمة في المسار الديمقراطي المغربي، وفتح نقاش هادئ ومؤسَّس على هذا المستوى.

فدستور 2011 جاء بمنظومة متكاملة تتعلق بالسلط والمؤسسات الدستورية، وبكيفية اشتغالها وعلاقتها ببعضها البعض، كما نظمت أحكامه بشكل واضح ودقيق مختلف المجالات التي ترتبط بالهندسة الحكومية وما يترتب عنها من أسس صياغة السياسة العامة والسياسات العمومية التي يتعين أن يتضمنها البرنامج الحكومي، وصولا إلى دور المؤسسة الملكية على مستوى مواكبة تشكيل الحكومة وضبط هندستها، وعلى مستوى تعيين الوزراء؛ وذلك قبل المرور إلى مرحلة التنصيب البرلماني.

فهذه "التراتبية الدستورية" تتضمن قواعد أساسية واضحة، ترتبط من جهة بانسجام وترابط هذا البناء على مستوى تشكيل الحكومة والقواعد الدستورية المرجعية الذي تحكمه، ومن جهة ثانية باختصاصات وسلطات المؤسسات الدستورية الرئيسية وبعلاقتها ببعضها البعض، ويتعلق الأمر هنا بالمؤسسة الملكية وبالحكومة وبالبرلمان (مجلس النواب الذي يملك سلطة التنصيب البرلماني).

ومن هذا المنطلق، تبدو الحاجة ملحة إلى استعراض القواعد الدستورية المرتبطة بتشكيل الحكومة في مراحلها الأولى، ويتعلق الأمر هنا بمرحلة تشكيل الأغلبية الحكومية المتطلبة في النص الدستوري.

فقد كثر اللغط حول حالة عدم تمكن الأستاذ عبد الإله بنكيران من تشكيل هذه الأغلبية، وكثرت بالتالي "الفتاوى" حول الآثار المترتبة عن هذا الفشل الذي يتوهمه البعض على الرغم من أن الأستاذ بنكيران نفسه لا يقول به ولا زال في مرحلة المشاورات المتعلقة بتشكيل الحكومة.

وبدأت الاقلام تسيل بمداد كثير يتعلق بالانتخابات السابقة لأوانها وكأنها الحل الوحيد المتاح في هذه الحالة، وهذا فيه تعسف واضح على النص الدستوري نفسه وعلى الاختصاصات المخولة دستوريا للملك ولرئيس الحكومة المعين.

فخلافا لما يعتقد البعض، فإنه في حالة عدم تمكن رئيس الحكومة من تشكيل الأغلبية الحكومية، يمكن الوقوف على خيارات دستورية عدة متاحة، وليس فقط خيار واحد كما يحاول البعض ترويجه، ويبقى اللجوء إلى إحدى هذه الخيارات مسألة تقدير سياسي للسلطة الدستورية المختصة (جلالة الملك).

وعلى الرغم من أن اللجوء إلى إحدى هذه الخيارات الدستورية قد يثير مواقف متباينة بين مؤيد ومعارض، إلا أنها تبقى إجراءات مستنبطة صراحة أو ضمنا من أحكام دستور 2011 بغض النظر عن ملاءمتها سياسيا للحظة الحالية.

فالأمر يتعلق هنا أساسا بالإمكانية الدستورية المتاحة لجلالة الملك للجوء إلى ثلاثة خيارات دستورية متاحة عند عدم التمكن من تشكيل الاغلبية الحكومية:

قيام جلالة الملك بحل مجلس النواب الجديد بظهير والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة.

قيام جلالة الملك بتعيين رئيس حكومة جديد من الحزب نفسه الحاصل على الرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية الأخيرة ومنحه فرصة جمع الأغلبية البرلمانية.

أو قيام جلالة الملك بتعيين الشخص نفسه رئيسا للحكومة مرة أخرى ومنحه فرصة جديدة لتشكيل أغلبية حكومية؛ وذلك على أساس منهجية مختلفة لتشكيل الحكومة وصياغة البرنامج الحكومي.

فقد يبدو للبعض أن اللجوء إلى إحدى الخيارات الدستورية غير ملائم سياسيا في ظل الظرفية التي يعرفها البلد، في حين قد يبدو خيارا آخر من عمق التأويل الديمقراطي للدستور. فهذه الأحكام الدستورية هي عامة ومجردة، ويبقى للسلط الدستورية المختصة تقدير مسألة اللجوء إلى إحدى الخيارات من عدمه.

ويعتبر السهر على صيانة الاختيار الديمقراطي أهم الاختصاصات المرتبطة بهذا المجال القابل للتأويل والاختلاف، والمتعلق بآثار العملية الديمقراطية من أساسها. وعند الاختلاف في التأويل الديمقراطي للدستور، فإن اللجوء إلى التحكيم الملكي يعتبر من صميم ممارسة هذا الاختصاص الرئاسي للملك، ويجد أساسه الواضح في دستور 2011؛ وذلك أيضا خلافا لما يعتقد البعض الذي يحاول وضع قيود سياسية على تطبيق الأحكام الدستورية خدمة لمواقف سياسية شخصية، وهو ما لا يمكن أن يقول به عاقل.

فالنص الدستوري يجب أن يحكم العلاقات بين المؤسسات الدستورية ويؤطر النقاش السياسي وليس العكس. أما الاستعمال السياسي والانتصار لمواقف شخصية (من قبل بعض الأكاديميين والإعلاميين)، فيؤدي إما إلى ابتداع أحكام لم ترد في دستور 2011، أو إلى تقييد أو تضييق مجال تطبيق النص الدستوري في حد ذاته، أو إلى ربط ممارسة الاختصاصات الدستورية بشروط سياسية وهمية لم ترد في الوثيقة الأساسية للمملكة، وهو ما سيؤدي إلى تفاقم فوضى الفتاوى الدستورية التي أشرنا إليها أعلاه.

عبد اللطيف بروحو

*متخصص في العلوم الإدارية والمالية العامة