يترقب صناع القرار من مختلف ألوان طيف وسائل الإعلام ما يعرض خلال قمة التغيّرات في وسائل الإعلام التي أعلنتها صحيفة الغارديان البريطانية.

هناك 400 من كبار العاملين والمنظرين والمسوّقين، سينضمون إلى جلسات القمة على مدار يومين في منتصف مارس من العام 2017، في محاولة إعادة بناء الثقة بصناعة إعلامية تعمل على بناء الحقيقة، لكنها سُلبت منها في عصر ما بعد الحقيقة.

الحلول التي سيقترحها المتحدثون على مدار يومين، لن تكون في كل الأحوال حقنة إنعاش بقدر ما هي خارطة طريق لخروج وسائل الإعلام، الصحافة تحديدا، من السوق المريضة.

الغارديان بوصفها صحيفة الخطاب المعتدل وعالي المسؤولية، تبنت هذه القمة مع تصاعد التساؤلات حول المدى الذي يتم فيه تشويه نظرتنا إلى العالم بعد تنامي وصعود وسائل التواصل الاجتماعي، كقنوات توزيع للأخبار، بقوة جعلت الصحف تتراجع وتفقد ثقة المستهلك.

ستنطلق أيضا في القمة تساؤلات بشأن القراء الذين ضاقوا ذرعا بالإعلانات الخالية من الجودة وغير ذات صلة باهتماماتهم، الأمر الذي جعلهم يتحولون عن متابعة وسائل الإعلام التي باتت تعيش على مثل تلك الإعلانات.

ثمة اهتمام بموضوع الوعود الجريئة وتقديم المحتوى المتميز من قبل كبريات وسائل الإعلام، والتي لم يتحقق منها إلا القليل لإعادة القراء الأوفياء إلى صحفهم المفضلة.

وستكون إدارة وسائل الإعلام معنية بموضوع الإعلانات التي تبقيها على قيد الحياة، والقلق المتفاقم بشأن الاحتيال في الإعلان الرقمي والخصومات التي تحصل عليها كبريات المواقع الإلكترونية.

لا يبدو مخفيّا أن صحيفة الغارديان وهي تتبنى هذه القمة، تعلن تمسكها بالصحافة كوسيلة للمراقبة ومنع الفساد وليست وسيلة تجارية تعمل بدافع الربح.

مثل هذا الأمر سبق وأن حذرت منه كاثرين فاينر، رئيسة تحرير الغارديان، لإيقاف انتشار النهج الملتبس حول مفهوم الحقيقة، لأنه يوحي بأننا كصحافيين في خضم تغيير جوهري في قيم الصحافة وتحوّلها إلى مصدر تجاري استهلاكي، بدلا من تعزيز الروابط الاجتماعية والديمقراطية، والارتقاء بوعي الجمهور، والحدّ من الفساد السياسي.

وطالبت فاينر في نداء للقراء إثر الأزمة المالية التي تعيشها الغارديان أسوة بالصحف الأخرى، بدعم القراء والمؤسسات اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، من أجل المحافظة على حساسية الصحيفة العالية لمتابعة الأحداث. فالغارديان مثلها مثل بقية وسائل الإعلام، تعمل في بيئة تجارية صعبة بشكل لا يصدق.

وفي واقع الأمر، سيكون على هذه القمة الدفاع عن التقاليد الصحافية التي أرساها “فليت ستريت” في بريطانيا والعالم، وأن المجتمع لا يقبل بالتنازل عن اتجاهات قائمة وراسخة من أجل صناعة تجارية.

لكن التحدّي أكبر من قدرة الغارديان والمشاركين في قمة التغيّرات في وسائل الإعلام، ومثل هذا التحدّي سبق وأن رفعه آلن روسبيردغر، رئيس تحرير الغارديان السابق، قبل سنوات بالقول “إذا أدارت وسائل الإعلام ظهرها للمجتمع من أجل أنانية تجارية، والاكتفاء بفكرة ليس ثمة ما يمكن أن نتعلمه، فإنها فقط ستدخل في غياهب النسيان”.

قبل ستة أعوام رفعت قمة أبوظبي للإعلام شعار المحتوى المتميز، وأثارت من الأسئلة حينها عصفا ذهنيا، كان من بين ذلك ما أثاره إمبراطور الإعلام روبيرت مردوخ والمدير التنفيذي لشركة غوغل أريك شميدك عن ثورة قادمة في المحتوى الإعلامي الرقمي.

لكن مثل هذا المحتوى وبعد سنوات سريعة للغاية في التطور الإعلامي، لم يتحقق بالطريقة التي تؤمن مستقبل وسائل الإعلام نفسها، وفاقم معه الأسئلة عن تغيّر سلوك القراء الذي لا يمكن العودة به إلى الوراء.

وقمة التغيّرات المزمع انطلاقها في مارس المقبل، انتبهت إلى مثل ذلك، على الأقل من أجل أن تدافع الغارديان عن تصوّرها الرافض لتسليع الأخبار، أو اعتبارها وسيلة في حروب العالم.

بيد أن الأمر بالنسبة إلى دول كبرى لم يعد حرب معلومات، بل حرب على المعلومات، وفق وصف بيتر بورمرانتسيف مؤلف كتاب “لا شيء حقيقي، وكل شيء ممكن”.

في ظل حرب المعلومات العالمية كيف تنتصر الحقيقة، هكذا يتساءل ريتشارد ستينغل مدير تحرير مجلة تايم السابق والوكيل الحالي في وزارة الخارجية الأميركية “نحبذ فكرة أن الحقيقة عليها دوما أن تخوض النزال في سوق تجارة الأفكار، لكنها اليوم باتت تخسر، وليس كما كان في السابق”.

الواقع الحالي، يدفعنا إلى الإقرار بخسارة وسائل الإعلام التقليدية، والاعتراف بتصاعد أسهم وسائل الإعلام الرقمي، لكن مفهوم التصاعد والتراجع، حمل معه أكثر من نشوة الربح وحسرة الخسارة، إنه التغيير في القيم ومفهوم الحقيقة والمصداقية، فالحقيقة لم تعد هاجسا يرفع من شأن وسائل الإعلام، بل مزاج يتحكم به المدوّن على وسائل التواصل الاجتماعي، كل يقول حقيقته على منصته، فيما الخاسر الأكبر هو المجتمع الذي تسود فيه ثقافة سائدة عن مصادر إخبارية متراجعة الحساسية والمسؤولية.

 

كرم نعمة