جوهر حقوق الإنسان (الحرية، المساواة، الكرامة) هذا السجل النظري بمثابة بناء نظري، لكن السجل العملي بخلاف السجل النظري الذي ينتمي إلى عالم الأخلاق والمثل -يرتبط بعالم الوقائع -حيث يصبح حينها الخصم وصيا وراعيا لحقوق الإنسان ويتم التمويه والتدجيل. باسم هذه الحقوق ترتكب أكبر الجرائم والخروقات، وعملية القلب هاته تمس جوهر الإنسان لأنها استثمار وتغليط.

ان السياسة لا تحتاج السياسة للأخلاق إلا في الإخراج والتقديم. فهي هنا وسيلة لتمرير وتبرير وتجميل القرار أو الفعل السياسي. فقد اعتبر ميكيا فيلي أن السياسة هي فن إدارة المصالح الذاتية والجماعية خارج الاعتبارات الأخلاقية والقيمية. ويلاحظ أن خطاب حقوق الإنسان والديموقراطية احتلا حيزا كبيرا من الخطاب السياسي المعاصر، فقد استخدمت هذه المقولتان كإيديولوجيا ضد المعسكر الاشتراكي، وكذريعة للتدخل ضد الدول المتمردة لترويضها وتركيعها. فهناك مفارقة غريبة بين الوعي واللاوعي. فالوعي يستسيغ الإبادات والحروب والتخريب، واللاوعي يلجأ إلى إضفاء طابع أخلاقي مثالي مهدوي خلاصي على الاستثمار الواعي. هكذا فمقولة حقوق الإنسان والديموقراطية مطاطيتان مرنتان تستعملان حسب الأحوال والمصالح والتبريرات.

لقد أضحى شعار الديمقراطية مجرد كليشيهات وشكليات تتبناه النخب والدول. وهذا الموقف الاختزالي التحريفي يؤدي الديموقراطية في جوهرها. فالديمقراطية هي التطبيق الفعلي لمفاهيم (الحقوق والحريات، التمثيلية، سيادة القانون، الديموقراطية، المشروعية، العقلانية في ترابطها معا) وإذ بطل عنصر منها بطلت الديموقراطية، وهي لا تتحقق فعليا باعتبارها طوبى أكثر منها ممارسة فعلية.

ان المطلب الديموقراطي هو مطلب النخبة السياسية أكثر مما هو مطلب جماهيري. وأغلبية الرأي العام العربي لا تشاطر النخبة هذا الهم، فالأغلبية لا تطرح المسألة السياسية في صيغتها المجردة (مؤسسات وتنظيمات) بل في صيغتها الملموسة، فالتفكير في الديموقراطية يتطلب قدرا من الثقافة ومن القدرة على التجريد، لا يوفرها المستوى الثقافي الحالي للمواطن العربي. وعدم تمثل الجماهير للمطلب الديموقراطي نعزوه لسببين:

- انحدار المستوى الثقافي -الانحدار الاجتماعي المعيشي، والنخبة مرتبطة بالديموقراطية لأسباب عديدة منها: 1-المستوى الإدراكي السياسي، 2-إمكانية انخراطها في الحياة السياسية. إذن فالمطلب الديموقراطي عند النخبة السياسية مطلب عضوي مهني. الديموقراطية لعبة ذات حدين، 1-مطية للمجتمع إلى تحقيق التقدم إذا تحققت ضمن توازنات معينة، يصعب تحقيقها لطبيعة الحياة السياسية وصراع المصالح، الذي يعيق انجازها فعليا , لتبقى مفهوما هلاميا لا يمكن تثبيته على ارض الواقع. فأكبر الديموقراطيات في العالم هي اشكال براقة تخدع المتفرج، وتدمر باسمها كل الحقوق الانسانية 2-مزلقا يقود إلى هاوية التفكك والحرب الأهلية، في واقع الجهل والتخلف واللاتوازن وتخلف شرائح المجتمع المدني بالنسبة للدول المتخلفة التي تحلم بتحقيقها.

 

منصف بندحمان