برغم أن انتفاضات «الربيع العربي» عبّرت عن إخفاق نموذج التنمية السائد في معظم البلدان العربية، والذي كانت تتبنّاه دول ريعية أو شبه ريعية، تعتمد على الطلب الخارجي لسلعة أساسية مثل النفط الخام أو الفوسفات، أو على السياحة وتجارة الترانزيت وتحويلات العاملين بالخارج والقروض والاستثمارات الأجنبية وضريبة مرور السفن في القناة البحرية، كما هو الحال في مصر وتونس، فإن التوجّهات الاقتصادية لعملية الإصلاح التي تبنّتها الحكومات التونسية والمصرية المتعاقبة بعد «الربيع العربي»، لا تندرج في إطار تشجيع الإصلاحات في مجال الحكم الرشيد ووضع إطار اقتصادي ملائم لنمو دائم.


ويمكن للمراقب الموضوعي أن يرى في سيرورة الأحداث بعد «الربيع العربي» أن تونس، النموذح الناجح في عملية الانتقال الديموقراطي قياساً ببقية البلدان العربية الأخرى، والتي كان شعبها يعتقد أن الثورة بمفردها ستكون جالبة للاستثمار، على غرار المؤتمر الدولي للاستثمار الذي عُقد بتونس في نهاية تشرين الثاني 2016 (خصّص ما بين المنح والقروض والودائع حوالي 15.4 مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد التونسي)، ظلت متمسّكة بالنموذج الاقتصادي السابق.

علماً أن الأخير خضع لبرنامج الإصلاح الهيكلي وفقًا لوصفات صندوق النقد الدولي في أواسط الثمانينيات من القرن العشرين، وسار في طريق «توافق واشنطن» في أواسط التسعينيات، بوصفه مذهبًا اقتصاديًا ليبراليًا يقوم على فلسفة التقشف، والخصخصة، والإصلاح الضريبي، وتخفيض النفقات الحكومية العامة، وتحرير المبادلات التجارية والأسواق المالية، وقد قاد هذا النموذج الاقتصادي إلى حدوث كوارث في البلاد.


وإذا كان لا بدّ من الحديث عن «المردود الاقتصادي» للثورة التونسية، فلا بدّ من الإشارة إلى تعميم الفقر على الطبقات الشعبية، كما على الطبقة المتوسطة، حيث تتأثر غالبية التونسيين بالتهاب الأسعار، وتدهور قدرتهم الشرائية، واستفحال البطالة، والتفاوت الجهوي (المناطقي)، وازدياد المديونية، وتناقص الموارد الجبائية.

وقد أُثِيرَ نِقَاشٌ وَاسِعٌ في تونس بين الاقتصاديين وبينهم وبين الحكومة والإدارة الاقتـــصادية حــــول سبل الإصلاح الاقتصادي. وتم خلال ذلك وضع أكثر من مشروع للإصلاح الاقتصادي. إلا أن هذا الإصلاح لم يتحــقق بسبب عدم وجود استراتيجية واضحة لهذا الغرض.


وكان هنا اتجاه يدفع نحو «اقتصاد السوق الحر» بما يتضمّنه ذلك من برامج عملية للانفتاح الاقتصادي والتجاري، والحدّ من تدخل الدولة والتخلص من القطاع العام وتسليم مقاليد قيادة الاقتصاد الوطني للقطاع الخاص، والاندماج بالاقتصاد العالمي في نطاق العولمة. ويدعم هذا التيار ممثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والأحزاب الرئيسية التي تقود الحكومة التونسية الحالية بتشجيع من أصحاب المصالح في القطاع الخاص، وبدعم من الاتحاد الأوروبي الذي انخرطت تونس معه في شراكة اقتصادية وتجارية منذ أواسط التسعينيات من القرن الماضي، حيث تدعو هذه الشراكة الأوروبية - المتوسطية صراحة إلى انتهاج سياسات اقتصاد السوق الحر. وكان هناك اتجاه آخر يدعو إلى التمسك بدور الدولة الاقتصادي وتكريس القطاع العام وإصلاحه، ضمن برنامج يعيد الاعتبار للتخطيط ويعمل على السير بخطوات جادة لتحقيق التنمية الشاملة، والتعامل مع المعطيات الجديدة بانفتاح يتيح لتونس الاستفادة إلى أقصى حدّ من التقدم التكنولوجي والعلمي، ومن المعطيات الإيجابية في العلاقات الاقتصادية الدولية.


لقد تغيّرت مفاهيم التنمية من التركيز على النمو الاقتصادي إلى التركيز على التنمية البشرية ثم التنمية البشرية المستدامة، أي الانتقال من الرأسمال البشري إلى الرأسمال الاجتماعي، وصولاً إلى التنمية الإنسانية. واقترن هذا التطوير في مفاهيم التنمية بإدخال مفهوم «الحكم الصالح» في أدبيات الأمم المتحدة، ومؤخرًا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فالتنمية المستدامة هي في حقيقتها التاريخية تنمية شاملة تشمل الأبعاد الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لاسيما أن الهدف الأسمى لها يتمثّل برفع مستوى حياة المواطنين، والحدّ من فجوة الثروة والدخل بين مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، وبين مختلف الجهات والمناطق داخل البلد الواحد، فضلاً عن تحسين مستوى المعيشة والحياة في البلاد. لا يمكن قصرُ المقاربة التنموية على الديموقراطية والمشاركة في التصويت، سواء في انتخابات فعلية أو شكلية، ولا على وجود قيادة سياسية منتخبة ديموقراطياً، كما هو الحال في تونس.

إذ يُفترض أن تتضمّن أيضًا بناء منوال تنموي جديد، تلعب فيه الدولة الوطنية دورًا مركزيًا من أجل إنشاء بنية تحتية أساسية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، لا سيما في مجالي الصحة والتربية.


بهذا المعنى، فإنّ استراتيجية التنمية المستدامة تنطلق من عملية متكاملة تتضمّن مبدأ المشاركة الذي لا يأخذ أبعاده الحقيقية إلا من خلال إشراك فئات واسعة من المجتمع في عملية اتخاذ القرار، وفي الإشراف على المشاريع التنموية والتنفيذ العملي لها. ويكتسب مبدأ المشاركة أبعادًا أخرى أكثر أهمية في مجال التنمية الاجتماعية، من خلال تطبيق استراتيجية وطنية للتنمية المناطقية (الجهوية). وهنا تصبح اللامركزية ركيزة أساسية في ديمقراطية الدولة الوطنية، عبر منح سلطات محلية حقيقية للبلديات وللمجالس المحلية في المحافظات الفقيرة، المهمّشة تاريخيًا، لكي تؤدي دورًا مهمًا في توفير خدمات أكثر فعالية للمواطنين، وفي تأمين المشاركة في التنمية المستدامة.