منذ تسعينيات القرن العشرين، شهدت السياسة الأمريكية تجاه منطقة المغرب العربي انعطافة كبيرة تجلت في الاهتمام الأمريكي المتعاظم بالمنطقة، وتكثيف العلاقات السياسية والاقتصادية بدولها، بعد أن كادت المنطقة تكون حكرا على السياسات والمصالح الأوروبية، وبخاصة الفرنسية، التي استفادت من تراكم العلاقات في ظل الحقبة الاستعمارية في المنطقة، وحرصت على تنميتها وصيانتها بما يؤمن لها ديمومة النفوذ والهيمنة .

 

كما أن التطورات الكبرى بعد فترة الحرب الباردة أحدثت تغيرا كبيرا في الفكر الاستراتيجي، فبعد أن هيمنة الاعتبارات الجيوسياسة في عالم ثنائي القطبية أفرز النظام العالمي الجديد أهمية العوامل الاقتصادية والأمنية في السياسة الخارجية الأمريكية وخصوصا تجاه منطقة شمال إفريقيا نظرا لأهمية المنطقة وأبعادها اللوجيستيكية.

 

ومما لاشك فيه أن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت فاعلا يحتل الصدارة في توجيه السياسة التي تهم المنطقة، بما في ذلك ملف الصحراء، إلا أن العلاقات المغربية الأمريكية تأثرت دائما بالأوضاع التي كانت تعرفها الحياة السياسية المغربية، وبالتنافس الأمريكي الفرنسي، وموقف فرنسا من السياسة الأمريكية، لذا فمعظم المواقف التي اتخذتها الإدارة الأمريكية بقية متأرجحة بين الحياد السلبي والحياد الإيجابي (من وجهة نظر المغرب)، ثم هناك المتغيرات العالمية التي تؤثر على المحيط الدولي بصفة عامة.

 

وإذا كان الهاجس الاقتصادي هو الأكثر وضوحا في دوافع الجانب المغربي لعقد اتفاق التبادل الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإن هناك من ذهب إلى التركيز على أن الدوافع السياسية لدى المغرب أكثر منها اقتصادية، ويأتي على رأس هذه الدوافع المراهنة على كسب موقف الولايات المتحدة الأمريكية لصالح المغرب في ملف الصحراء(1)، لأن تدبير ملف الصحراء يظل من المشاغل الرئيسية للدبلوماسية المغربية(2)، وهو الملف الذي شهد عدة تطورات كبيرة، حيث أن ظروف الحل تتعقد يوما بعد يوم.

 

وبتعيين السيد ”جيمس بيكر الثالث” ممثلا للأمين العام للأمم المتحدة لتولي ملف الصحراء، دخل هذا الملف “المرحلة الأمريكية” الشيء الذي أدى إلى اعتماد مقاربة جديدة من إنتاج أمريكي محض(3). حيث تمت تحت إشرافه مباحثات بين المغرب و”البوليساريو” في كل من لشبونة 23 يونيو 1997، ولندن 19-20 يوليوز 1997(4)، بالإضافة إلى لقاء برلين بتاريخ 28 و 29 شتنبر 2000، وتقدم بمشروع ”جيمس بيكر” ويتلخص في اعتماد ”الحكم الذاتي” للمناطق الصحراوية لمدة أربع أو خمس سنوات يليه استفتاء تقرير المصير، وهو المشروع الذي لقي دعما في مجلس الأمن، إلا أن الاتجاه الدولي خلص إلى ضرورة المفاوضات بين الأطراف المعنية(5)، من خلال القرار رقم 1754 بتاريخ 31 أبريل 2007 (6).

 

وقبل ذلك كان الأمين العام قدم تقريرا إلى مجلس الأمن في يوليوز 2001 تضمن مقترحات جديدة(7)، كما احتوى على أفكار تتناول إقامة شكل من أشكال الحكم الذاتي لسكان الصحراء، الذين يخول لهم حق اختيار الهيئات التنفيذية والتشريعية في إطار السيادة المغربية، حيث تحتفظ الرباط بحقها في ممارسة السلطة المطلقة على العلاقات الخارجية.

 

وبحلول الذكرى الثلاثين للمسيرة، وجه الملك محمد السادس خطابا حدد فيه ملامح الحل السياسي للخروج من النفق الطويل للنزاع حول الصحراء، وذلك بتخويل الأقاليم الصحراوية إمكانية خوض تجربة الحكم الذاتي، وتمكين سكان المنطقة من تدبير شؤونهم المحلية بنوع من الاستقلالية بعيد عن سلطة الوصاية.

 

وبخصوص موقف الولايات المتحدة الأمريكية تجاه قضية الصحراء، فإن موقفها لم يتضح في أي وقت من الأوقات، لكنها خلال مرحلة الحرب الباردة كانت تعمل على أن لا يفقد المغرب جوانب قوته سواء من الناحية العسكرية أو الدبلوماسية(8).

 

وهكذا فإن الإستراتيجية الأمريكية في تعاملها مع قضية الصحراء تتمثل في استعمال هذه القضية كأداة تكتيكية للتعامل الاستراتيجي مع المنطقة المغاربية، لأن ما يهم أمريكا ليس الانتصار لشريك بقدر ما هو الانتصار لنفسها في حل يضمن الاستقرار للمنطقة(9).

 

لكن الأوضاع الدولية في عالم ما بعد نهاية الحرب الباردة أصبحت تقتضي الأخذ بعين الاعتبار التحولات الكبرى التي يعرفها العالم، وخاصة تلك التطورات التي تعرفها قضية الصحراء، وهو ما يفسر الموقف الأمريكي المحايد أحيانا والغامض أحيانا أخرى(10).

 

وعليه فالموقف الأمريكي من الناحية الرسمية يعلن عدم انحيازه لأي طرف ويركز على الدعوة إلى حل قانوني، ولهذا شجع الأمريكيون المغرب على المطالبة بإجراء استفتاء في الصحراء، وفي نفس الوقت ساعدوه في بداية الثمانينيات على تقوية دفاعاته العسكرية لضمان توازن أمني في المنطقة. إلا أنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أخد الموقف الأمريكي يتجه نحو ”الحياد” أكثر، بل ويؤيد بعض مواقف ”جبهة البوليساريو” وخصوصا منها الدعوة إلى عقد مفاوضات مباشرة بين الطرفين(11).

 

وما يمكن التسليم به هو أن قضية الصحراء لا تحظى بالأولوية لدى الدبلوماسية الأمريكية حتى يتم الحسم فيها، بل إن الدول التي لها مصالح إستراتيجية في المنطقة تتعمد أن يبقى الصراع قائما لكي لا يتم التفكير في توجهات أخرى من طرف دول المنطقة، مثل بناء الاتحاد المغرب العربي(12) مثلا، لأن هذا الأخير مصيره مرتبط إلى حد كبير بحل مشكل الصحراء(13).

 

وأخيرا فالموقف الأمريكي اتجاه قضية الصحراء يستجيب للإكراهات العامة لسياستها الخارجية، وكذا ضرورة التوفيق بين مصالحها المتناقضة في المنطقة، كما أن الحياد الأمريكي يستجيب أيضا لرغبة واشنطن في الحفاظ على العلاقات الوثيقة مع المغرب، دون أن يعرقل ذلك المصالح الأمريكية المتزايدة والمهمة بالجزائر الداعم الأكبر لجبهة البوليساريو.

 

ولعله من المفاجئ في ما يخص اتفاقية التبادل الحر الموقعة مع المغرب، موقف الولايات المتحدة الذي أعلن عنه في 17 غشت 2004، والذي يستثني إقليم الصحراء؛ المتنازع عليها بين المغرب وجبهة البوليساريو؛ من اتفاق التبادل الحر.

 

فقد اعتبر المندوب الأمريكي في التجارة الخارجية؛ آنذاك؛، “روبرت زوليك”، بصريح العبارة، أن اتفاق التبادل الحر بين المغرب والولايات المتحدة لن يشمل الصحراء(14)، و”لن يغطي إلا التجارة والإستثمار في التراب المغربي المعترف به دوليا”، بناء على كون أن : “الولايات المتحدة والعديد من البلدان الأخرى لا تعترف بسيادة المغرب في الصحراء الغربية، وأنه لا شيء في اتفاق التبادل الحر سيفرض على واشنطن تغيير موقفها هذا”.

 

وهكذا يتبين، أن الهدف الذي كان المغرب ينتظره من اتفاق التبادل الحر وهو ربح المساندة الأمريكية في نزاع الصحراء، لم يؤدي الدور المأمول منه بشكل مباشر، لكنه ساهم في تغيير الموقف الأمريكي فيما بعد من الدعم المطلق لتقرير المصير إلى دعم حل سياسي توافقي.

 

فالملاحظ أن مواقف الولايات المتحدة على الصعيد الأممي قد إختلفت منذ توقيع اتفاق التبادل الحر مع المغرب، فإذا راجعنا تصويتها في مجلس الأمن الدولي لصالح “مخطط جيمس بيكر الثاني” الذي أيدته البوليساريو والجزائر دون فرضه على الأطراف، نجد أنه وبعد التصويت على القرار 1495 لسنة 2003 صرح السيد “نيغروبونتي” ممثل الولايات المتحدة بما يلي: “يستجيب القرار الذي إتخذناه اليوم لتوصيات الأمين العام بشأن سبل إحراز التقدم في الصحراء الغربية. ويمثل هذا القرار توصية مدروسة من المجلس للطرفين والدول المجاورة ولكنه لا يشكل فرضا عليها”.

 

وامتنعت الولايات المتحدة إلى جانب أكثر من 100 دولة عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 دجنبر 2004 الذي طرحته الجزائر للتصويت والذي يشدد على “حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير”، وهو القرار الذي حاز على موافقة 50 دولة فقط.

 

وأصبحت الولايات المتحدة تنادي بحل سياسي تفاوضي مقبول من الطرفين، وهو ما يمكن استنتاجه من تبرير التصويت الأمريكي في قضية الصحراء بمجلس الأمن، والتي نستعرض بعضا منها في ما يلي:

 

بعد التصويت في مجلس الأمن الدولي على القرار 1675 لسنة 2006 بخصوص الصحراء، صرح السيد “جون بولتون” ممثل الولايات المتحدة بأنه: “وفي غياب تسوية الصراع والأزمة الإنسانية، فسيظلان عقبتين رئيسيتين أمام التكامل والتنمية على الصعيد الإقليمي ولا يسع الولايات المتحدة أن تفرض حلا، ولكن باستطاعتنا معا أن نواصل حث الأطراف على العمل جنبا إلى جنب ومع الأمم المتحدة بروح تتصف بالمرونة والتراخي. ولقد أعرب المغرب عن تصميمه على تقديم خطة حكم ذاتي للإقليم، ونحن نشجع على تقديم خطة قوية وذات مصداقية على أمل أن تشكل أساسا لعملية تفاوضية جديدة بقيادة الأمم المتحدة …” ؛

 

بعد التصويت على القرار 1813 لسنة 2008 صرح السيد “وولف” ممثل الولايات المتحدة بأنه: “… نعتزم توسيع نطاق مشاركتنا بالذات معهما على مدى الأسابيع والأشهر المقبلة، ونحن من جانبنا نتفق مع السيد فان والسوم في تقييمه المتمثل في أن قيام دولة صحراوية مستقلة ليس خيارا واقعيا لتسوية الصراع، وأن الحل الوحيد الممكن عمليا هو الحكم الذاتي الحقيقي تحت السيادة المغربية. ولذلك، نرى أن ينصبّ التركيز في جولات المفاوضات المقبلة على تصميم نظام للحكم الذاتي مقبول من الطرفين ويتماشى مع طموحات سكان الصحراء الغربية. وفي هذا الصدد، طرح المغرب بالفعل اقتراحا وصفه مجلس الأمن بأنه جدي وذو مصداقية، ونحث جبهة البوليساريو على الدخول في مفاوضات مع المغرب بشأن تفاصيله، أو تقديم اقتراح شامل من عندها بخصوص الحكم الذاتي.”

 

بعد التصويت على القرار 1871 لسنة 2009 صرحت “سوزان رايس” المندوبة الدائمة للولايات المتحدة بمجلس الأمن بأن: “الولايات المتحدة تؤيد الأمين العام والسفير”كريستوفر روس” تأييدا تاما في جهودهما لإيجاد حل سلمي ومستدام ومتفق عليه بصورة متبادلة لنزاع الصحراء الغربية. لقد استمر هذا النزاع أطول من اللازم، إن هذه التوترات المستمرة، وكذلك العلاقات السيئة بين المغرب والجزائر، تحول دون قيام تعاون إقليمي بشأن المسائل الملحة والمستجدة التي تواجه شمال أفريقيا…. ونحث جميع الأطراف المعنية على الجلوس إلى طاولة المفاوضات دون شروط مسبقة”..

 

بعد التصويت على القرار 1920 لسنة 2010، صرحت السيدة “أندرسن” ممثلة الولايات المتحدة الأمريكية بمجلس الأمن بما يلي: “تؤيد الولايات المتحدة الأمين العام ومبعوثه الخاص “كريستوفر روس” تأييدا تاما في جهودهما من أجل إيجاد حل سلمي ومستدام ومتفق عليه بصورة متبادلة لصراع الصحراء الغربية … ونشجع جميع الأطراف المعنية على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بدون شروط مسبقة. فقد طال أمد هذا الصراع أكثر من اللازم ، وأعاق التعاون الإقليمي بشأن المسائل الملحة والناشئة التي تواجه شمال أفريقيا”.

 

1 – هذا ما ذهب إليه المحلل الاقتصادي ”عمر الكتاني” انظر مقال، محمد افراز، ”اتفاقية التبادل الحر بين المغرب وأمريكا المسار والرهانات” مجلة ألوان مغربية العدد الثاني 1425 ماي يونيو 2004، ص: 35-36.

 

2 – مجلة شؤون مغربية العدد 18/1997، ص: 27.

 

3 – مجلة شؤون مغربية، العدد 14 يوليوز 1997.

 

4 – انظر ابتسام قينران، ”اتفاق هيوستن ومسار مسلسل الاستفتاء في الصحراء المغربية” رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام، جامعة الحسن الثاني-كلية الحقوق الدار البيضاء دجنبر 1999، ص: 146، نقلا عن فتيحة العلمي، ”البعد السياسي والاقتصادي للعلاقات المغربية الأمريكية” رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في الحقوق، جامعة الحسن الثاني، عين الشق البيضاء 2002، ص: 80.

 

5 – حسين مجذوبي ”ملف الصحراء في استراتيجيات الدول الكبرى” مجلة وجهة نظر، العدد 28 ربيع 2006 مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، ص: 17-21.

 

6 – أحمد بودراع : ”ملف الصحراء في الأمم المتحدة السيرورة والمآل” مجلة وجهة النظر العدد 26 ربيع 2006 مطبعة النجاح الجديدة البيضاء، ص: 30-35.

 

7 – انظر النص الكامل لتقرير الأمين العام الذي تضمن مقترحات بيكر، مجلة شؤون مغربية، العدد 14 يوليوز 1997.

 

8 – عبد الكريم الحسوني، ”المغرب في السياسة الخارجية الأمريكية” رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام، جامعة محمد الخامس الرباط، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال – الرباط، موسم جامعي 2005-2006، ص : 36.

 

9 – محمد شقير: “الإستراتيجية الأمريكية ورهانات دول المنطقة”، جريدة الأسبوع المغربي، العدد 40-42 يناير 1998، نقلا عن عبد الكريم الحسوني ”المغرب في السياسة الخارجية الأمريكية”، مرجع سابق، ص: 37.

 

10 – لمعرفة موقف الإدارة الأمريكية من قضية الصحراء على عهد كل رئيس انظر المجلة العربية للعلوم السياسية العدد 17 شتاء 2008 ص : 76-86.

 

11 – راجع مصطفى الخلفي ”المرحلة الراهنة، ماذا قدمت اتفاقيات هيوستن لمشكلة الصحراء المغربية”، جريدة الراية العدد 322 بتاريخ 21 أكتوبر 1998، نقلا عن فتيحة العلمي، البعد السياسي والاقتصادي…” م س، ص: 80.

 

12 – عبد الهادي مزراري ”معركة الاستفتاء الكبرى” المطبعة الفنية، رقم الإيداع 1225/1999، ص: 91-94.

 

13 – رسالة الأمة الأربعاء 16 غشت 2006.

 

In a letter at 22.07.2004 to Congressman Joe Pitts, Robert Zoellick, the 14 – United States Trade Representative said: “The Administration’s position on Western Sahara is clear: sovereignty of Western Sahara is in dispute, and the United States fully supports the United Nations’ efforts to resolve this issue. The United States and many other countries do not recognize Moroccan sovereignty over Western Sahara and have consistently urged the parties to work with the United Nations to resolve the conflict by peaceful means.”

 

http://pitts.house.gov/temporary/040719l-ustr-moroccoFTA.pdf

 

*باحث في العلاقات الدولية – جامعة محمد الخامس أكدال

 

hamdi.ameurhadad@gmail.com