لقد اعتدنا في بلادنا على مخاضات الجبال وميلاد الفئران. يسري القول على ما سال من حبر وما دار من نقاش وتداول حول تنقية الكتاب المدرسي من شوائب التنشئة على العنف والكراهية. توج ذلك بخطاب ملكي حول إعادة النظر في التربية الدينية وتم الانكباب على إعداد مقررات دراسية تستجيب لهذه التطلعات.

لست متخصصا في التربية والتعليم، ولكني أب يواجه أسئلة محرجة من أطفاله أثناء إنجاز الفروض المنزلية التي تكون أكثر كثافة من الفروض الفصلية، وهذه قصة أخرى. أسئلة محرجة في المقرر القديم عن الكفار، عن عذاب القبر، عن أهوال جهنم، عن تلقين فكرة ونقيضها في نفس الوقت، يبحث حولها الطفل عن أجوبة منطقية، فلا يسعفنا إلا اللجوء إلى المراوغة للحفاظ على سلامة ذهن الطفل من التناقضات والإشكاليات الفظيعة التي يطرحها الكتاب المدرسي على عقول فتية لا تزال تشتغل بطريقة اللهو واللعب. بالأمس فقط وأنا أراجع مع ابنتي وصايا لقمان قالت لي بعدما قرأت تفسير و"لا تمش في الأرض مرحا"، والذي يعني التبختر والتمايل: وإذا كانت المشية الطبيعية لأحد بهذا الشكل، فهل يدخل جهنم؟. خضت ماراطونا من الشرح والتأويل للحفاظ على سلامة عقل الطفلة وعدم تخريب التركيبة المنطقية لدماغها.

بين يدي الآن، المقرر الجديد للسنة الأولى من التعليم الابتدائي بعنوان" في رحاب التربية الإسلامية" الذي توجه المؤلفون في مقدمته إلى التلميذ والتلميذة بكون الكراسة وضعت "للتمكن من "الضروري في الدين" وبناء الشخصية في أبعادها الدينية والروحية والوطنية المتمثلة في اختيار الوسطية والاعتدال والسماحة المتمركزة حول قيم التوحيد وإخلاص العبودية لله، وتمثل سيرة رسوله".

بغض النظر عن كون الفكرة الثانية من الجملة المتعلقة ببناء الشخصية تفترس الفكرة الأولى افتراسا(إذ كيف تستقيم السماحة إذا تمركزت حول القيم المذكورة (؟))، فإن ما يلي من الدروس بعيد كل البعد عن أهداف التنشئة على التسامح والمحبة والإخاء، وإن كان يترجم بالملموس الفقرة الأولى من المقدمة التي ما أن أظهرت قيم التسامح والاعتدال حتى أفرغت عليها ركاما من الانغلاق والكراهية.

ابتداء من الصفحة 6 من المقرر المذكور، خصصت الحصص لسورة الفاتحة وتم شرح جميع الآيات إلى حدود "صراط الذين أنعمت عليهم" وتم السكوت عن الآية الأخيرة "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" بمنطق كم من الأشياء فعلناها بتركها !! هنا تكمن المعضلة وتلوذ الشجاعة بالفرار.

ألن يسأل الطفل عن معنى الآية الأخيرة وآنذاك سيتجند الدواعش الذين تعج بهم المؤسسات التعليمية لحشو عقله بكل التفاسير المتطرفة التي ستجعله يستعجل اللحاق بمعسكرات داعش؟

ابتداء من الصفحة 38، تم تخصيص الحصص لسورة الكافرين في ضربة قاضية لكل ما ورد في مقدمة المؤلفين من حرص على التنشئة على الوسطية والاعتدال. وهاهي معاني الكلمات كما وضعت في المقرر ولكم أن تتصوروا ما ستنقشه من حروف الكراهية والتعصب على صفحات عقول الطفولة البريئة:

- "الكافرون: هم الذين لا يؤمنون بالله ويشركون به". أين تجليات الشرك في عصرنا الحاضر، هل لازلنا نعيش في زمن الأصنام والآلهة لنتحدث عن الشرك أصلا؟ هذه الإحالات في التربية على أشياء غير موجودة هي التي تجعل العقل الإسلامي يصنع دائما، باسم الدين، عدوا افتراضيا ويعيش حربا باردة مستمرة حتى يتمكن من خوض الحرب الساخنة بالفعل.

- "لكم دينكم: لكم شرككم وكفركم". أليس هذا هو الازدراء الحقيقي للأديان الذي لا ننفك نطالب بتجريمه إذا تعلق الأمر بالرسوم الكاريكاتورية المعادية للإسلام مثلا؟ بل أين التسامح والاعتدال التي أوهمَنا بها الكتاب في المقدمة؟

- "ولي دينِ : لي إخلاصي وتوحيدي". أليست هذه تنشئة على نفخ الذات وتمجيدها وضرب التواضع الذي ورد في صفحات الكتاب، في مقابل تحقير الآخر وازدرائه؟ رغم أن مفهوم "الآخر" لا يجب أن يجد له مكانا في مجال التربية والتنشئة ولا في أي مكان آخر لأنه مفهوم وهمي يحيل إلى التفرقة والصراع والعداء والتوجس، في حين أن أصل الإنسان واحد وكذا الحيوان وباقي الكائنات وكلنا نجسد تنوع هذا الكوكب الجميل باختلاف ألواننا وأشكالنا ولغاتنا ودياناتنا...

أليس للمؤلفين إذا خيار آخر غير سورة الكافرين ليستقبلوا بها التلميذ في سنته الأولى من التعليم الابتدائي؟ ألا يضم القرآن سورا أكثر سموا، من الجانب القيمي، وأكثر توافقا مع الطفولة من سور الكافرين والتين وقريش والفيل والفلق والناس، ولو كانت آيات مقتطفة من سور طويلة؟. ما ذنب الطفل ليبدأ عامه الأول في التعليم بهذا الصدام المرعب مع قصص أبرهة الحبشي وجيشه وطير أبابيل وهدم الكعبة والساحرات والنفاثات في العقد وشر ما خلق والحساد ورحلات قريش بين اليمن والشام؟؟؟ وهل كل هذه القصص والآيات والتعاويذ تجسد ما صرح به المؤلفون في المقدمة وهو التمكن من "الضروري في الدين"؟؟

في فقرة "أهتدي وأتشبع بالقيم" التي تختم به صفحات الكتاب والتي تكتسي خطورة بالغة حيث تفيد المغزى من الدرس وتجسد التنشئة على أرض الواقع، لا تجد إلا جملا خالية من المعنى فبالأحرى القيم. على سبيل المثال ورد في الصفحة 42 وفي درس الاقتصاد في استعمال الماء: "اقتصد في استعمال الماء ولا أبذره، لأن الله تعالى حرم الإسراف". ألا تستوجب التنشئة السليمة ذكر دواعي أخرى لاقتصاد الماء مثل نذرته وتكلفته على التغيرات المناخية وملكيته المشتركة بين جميع الكائنات؟؟

هذه فقط ملاحظات تصفح سريع لهذا المقرر، ولا شك أن فحصا متأنيا له ولمقررات باقي المستويات سيكشف حجم الإجرام الذي يمارس على أطفالنا من خلال الكتاب المدرسي، وفي كل مرة نكتوي بنار الإرهاب أو نفزع لمخططات الإرهابيين التي تم إفشالها في آخر لحظة أو نندهش للجدران المتراصة من الحناجر التي تقف ضد الحقوق والحريات ومساواة الجنسين، نصرخ بذهول، ما هذه المصيبة، من أين جاءنا هؤلاء، كأننا سقطنا للتو من كوكب آخر !!.

ذكرني هذا المقرر المدرسي بمشهدنا السياسي الذي يصرح فيه معظم الفاعلين بأشياء ويفعلون أشياء مناقضة لها، وأشفقت على حال أجهزتنا الأمنية التي تفكك كل يوم عصابات إرهابية تتربص بالبلاد والعباد، في الحين الذي يبذل فيه الساهرون على التربية والتعليم والتنشئة قصارى جهدهم لتفريخ أكبر عدد ممكن من هذه العصابات، في رحلة سيزيفية للوطن لا تنتهي !!!


يوسف سفلال