تتسارع أحداث المشهد السياسي المغربي عقب انتخابات 7 أكتوبر 2016 وتتزايد معها حدة التشويق والإثارة لما سيترتب عنها من مخرجات وتطورات. فإذا كان البعض انشغل حصريا على التأويل الانتخابي للاقتراع وما نجم عنه من فوز حزب العدالة والتنمية وخسارة حزب الأصالة والمعاصرة ثم تقهقر باقي الأحزاب، فإن المتتبع لمستجدات الساحة السياسية الآنية يلحظ جملة من المتغيرات والنوازل التي تعجز نظريات العلوم السياسية عن تفسيرها، فبالأحرى توقعها.

إن السياسة بالمغرب لا تخضع لضوابط محددة تستطيع تفسير سلوكيات الفاعلين ومجريات الأحداث، وإنما لمنطق خاص جدا؛ لذلك تجد أغلب التقارير التي تنشر بالصحف الدولية عن المشهد السياسي المغربي تقف عند الوصف وتعجز عن فك ألغازه وتحليل مساره وإن بادرت إلى تسمية الأشياء بمسمياتها والتصريح بما يشير إليه البعض تلويحا (مقالات الواشنطن بوست بتاريخ 6 و13 و20 أكتوبر 2016 على سبيل المثال).

هكذا تتوالى النوازل وتتقلب المواقف وتتغير الولاءات وتكثر المفاجآت حتى أصبح المشهد أكثر تشويقا من مباريات الليغا (البطولة الاحترافية الاسبانية لكرة القدم) التي سلبت فئة عريضة من المغاربة عقولهم وقلوبهم، فجعلتهم يقبعون ساعات عدة أمام شاشة التلفاز ويعزفون عن متابعة سيرك السياسة رغم ما أضفاه بنكيران عليه من طابع هزلي وفلكلوري قل نظيره.

وهنا يحق لنا أن نتساءل عن هذا المنطق أو المنطلق الذي يحرك السياسة بالمغرب، وبالتالي عن دلالات وأبعاد ما وقع إبان وبعد 7 أكتوبر، وعن الخيط الرابط للأحداث التي تلت ظهور النتائج، في محاولة لفهم مسار اللعبة السياسية ومدى تأثير وتأثر مختلف الفاعلين بسيرورة المشهد واتجاه بوصلته. لذلك نطرح الأسئلة التالية:

ما هي دلالات نتائج انتخابات 7 أكتوبر؟

هل يعني فوز "البيجيدي" نهاية وفشل منظومة التحكم؟

لماذا استقال مزوار من حزب التجمع ولماذا سيتم وضع اخنوش على رأسه؟

لماذا هرول شباط ولشكر إلى بنكيران وأبديا استعدادهما للمشاركة في حكومته؟

لماذا دعا العماري إلى المصالحة ولوّح بمطلب التعديلات الدستورية؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة المحورية تتطلب فهم طبيعة النموذج السياسي المغربي وخصوصية الاستثناء التي تميز البلد؛ ذلك أن إسقاط نظريات ومسلمّات وآليات العلوم السياسية بدت أحيانا قاصرة عن تحليل وقائع السياسة بالمغرب وتبرير سلوكيات الفاعلين، الشيء الذي قد يفسر فشل بعض المحللين والباحثين السياسيين في سبر أغوار الصراع وإدراك مآل الأحداث. لذلك فإن المنهجية التي وضعناها كنسق للتحليل والتفسير في مقالتنا تعتمد أساسا على البناء المنطقي للوقائع استنادا إلى آليات علم المعطياتData Science) ) التي تمكن انطلاقا من تحديد الفاعلين الرئيسيين ورسم خريطة السياق والتفاعل من استجلاء الحقائق واستقراء ترابط وتسلسل الأحداث.

إن متابعة تطورات المشهد السياسي لما بعد الاقتراع التشريعي توحي بتغيير في الخطط وإعادة توجيه لبوصلته وفق تكتيك جديد يسعى إلى خدمة وتحقيق الأهداف الثابتة لاستراتيجية الفاعل المحوري والحاكم الفعلي للبلد. لذا يمكن مقاربة هذه التطورات والإجابة على التساؤلات المطروحة أعلاه بناء على سياق المحاور الثلاثة الآتية:

أولا: المخزن والإسلاميون

يعتقد بنكيران وحزبه أن زواج المتعة الذي أبرمه مع المخزن عقب الحراك العربي قد يتحول يوما إلى زواج كاثوليكي على شاكلة علاقة إمارة قطر بالإخوان المسلمين؛ لذلك كان همه الأساسي خلال ولايته الحكومية الأولى كسب رضا المخزن والبرهنة على ولائه المطلق له وإن تعارض ذلك مع قناعاته ومصالح من انتخبوه. لكن الواقع يفند هذا المعطى لأسباب ذاتية وموضوعية، استفاض الصحافي علي أنوزلا في شرحها في مقاله الصادر يوم 6 أكتوبر 2016 المُعنون بـ "الانتخابات والقصر والإسلاميين"، لعل أهمها انعدام ثقة القصر بالإسلاميين وتقاسمهما المرجعية المعتمدة نفسها كمبرر للشرعية.

لهذا فإن القبول بالإسلاميين في مربع الحكم لا يمثل إلا تكتيكا أملاه صعود تيارات الإسلام السياسي وكرّسته ظروف الربيع العربي. أما القول بإمكانية التعايش بعيد المدى الذي يروج له بنكيران وحزبه، فلا يعدو مسألة محاولة تغطية الشمس بالغربال. لهذا تحرك المخزن باكرا للتصدي لهم وراهن على حزب "البام" الذي بنى عقيدته السياسية على محاربة الإسلاميين ولخص مؤسسوه هدف الحزب في وقف زحفهم.

كان إذن مبرر وجود "البام" يتمثل في هزيمة الإسلاميين وإخراجهم من محيط التسيير لما يشكل وجودهم من إزعاج باطني وإحراج ظاهري لدوائر القرار؛ لهذا قدمت له المساعدة من دوائر المخزن المختلفة كي ينجز هذه المهمة، وتم بالموازاة مع ذلك توجيه ضربات عدة للخصم (البيجيدي). غير أن يقظة هذا الأخير ووفاء قاعدته من جهة، وتزامن اللحظة الانتخابية، من جهة أخرى، مع احتضان المغرب لحدث عالمي (كوب 22) وتسليط الأضواء عليه خلال هذه الفترة، جعل هذه المساندة تقتصر على الشكل الناعم دون أن تصل إلى طبخ النتائج بالصيغة التي اعتادت وزارة الداخلية القيام بها إبان فترة المرحوم البصري. فكانت المحصلة فوز الإسلاميين بالمرتبة الأولى وخسارة الرهان على "البام".

ثانيا: المخزن وإعادة تشكيل الذراع الحزبي

شكل إخفاق "البام" في اقتراع 7 أكتوبر خيبة أمل كبرى بالنسبة للمخزن الذي أدرك أن دميته (التعبير لصحيفة الواشنطن بوست) لن تستطيع الاضطلاع بالدور المنوط بها. فبالإضافة إلى الفشل الانتخابي وتشكيلة فريقه البرلماني المكون أساسا من الأعيان الذين سيصعب عليهم مجاراة بنكيران وتجسيد دور المعارضة الشرسة، أثبتت مهزلة المسيرة المعلومة ضعف الامتداد الشعبي للحزب وتخبط قياداته وشعاراته. فكانت الخلاصة انتفاء الأسباب الذاتية التي من أجلها صيغ هذا الحزب.

وكان لزاما، والحال هذه، المرور إلى الخطة "ب" باللجوء إلى باقي الأذرع الحزبية المخزنية قصد بلورة نموذج جديد وفق تكتيك جديد، الشيء الذي عجل بإزاحة مزوار من رئاسة التجمع وإسناد قيادته إلى أحد المقربين الثقات وهو أخنوش تهيؤا لمناورة بنكيران على تشكيل حكومته رقم 2.1 أو استعدادا للحكومة رقم 2.2.

هذا التغيير في الخطة التقطه شباط ولشكر اللذين لم يجدا بدا من الارتماء في أحضان عدو الأمس، مع إبداء ما يقتضه الحال من طقوس التمنع والتعلل بضرورة "تغليب مصلحة الوطن" حفظا لعبق التاريخ وكبرياء المناضلين. المعطى نفسه سيخلص إليه العماري الذي وجد نفسه بين عشية وضحاها يتيما بلا راع، فبادر إلى السباحة وحيدا وتفتقت عبقريته، المطبوعة بإرث المرحوم ادريس بنزكري، عن نداء "المصالحة التاريخية" ومطلب "التعديلات الدستورية" الموجهين أساسا إلى الحاضن السابق للتعبير عن وجوده واستمراره رهن الإشارة. لقد أدرك أنه لم يعد مرْكز الرهان، لذلك فهو يسعى لكي يبقى على الأقل طرفا في المعادلة.

ثالثا: المخزن والحُكم والتحكم

من حسنات بنكيران أنه كرر على مسامعنا مرات عديدة كونه لا يحكم وإنما يساعد فقط من يحكم. إشارة فهمها جل المغاربة فعزفوا عن الذهاب للتسجيل والتصويت. أما القلة الباقية المُقتنعة بجدوى الانتخاب أو المُنتفعة منها فلم تجد أمامها سوى خيارين: التصويت لمن تتعاطف معه أو التصويت ضد من تكره بالتصويت لصالح خصمه. فكان في المجمل تصويتا عاطفيا بعيدا عن البرامج والإنجازات، ما ساهم في تبوؤ "البيجيدي" مجددا للصدارة رغم هزالة حصيلته الحكومية وتعدد القرارات اللاشعبية التي اتخذها ونكوصه عن أغلب وعوده الانتخابية. الأمر الذي سيحتم على المخزن الاستمرار في التعايش معه وابتكار أساليب جديدة للتحكم في المشهد وتوجيهه بما يخدم أهدافه ويراعي مصالح خُدامه المقربين.

وعملا بمقولة: "ما لا يدرك كله، لا يترك جله"، سيبحث المخزن عن الاستفادة لأقصى درجة من إذعان "البيجيدي" واستعداد بنكيران الدائم للتنازل، لتمرير مزيد من الإجراءات التقشفية المريرة وعدد من الاختيارات الليبيرالية المتوحشة، وعلى رأسها استكمال خوصصة التعليم والإجهاز على ما تبقى من خدمة صحية عمومية. لذا لن تخرج حكومة بنكيران الثانية عن شاكلة الحكومات الهجينة التي يستحوذ المخزن على قسمها السيادي، وستملي ضرورات جبر خواطر العائلات الحزبية تشكلها من جيش عرمرم من الوزراء الذين سيضطر الشعب لتحمل تكاليفهم الباهظة في عز الدعوة إلى التقشف.

خاتمة

أبانت نتائج 7 أكتوبر عن خسارة الرهان على حزب "البام" لتنحية الإسلاميين من الطريق. وإن كان "البيجيدي" قد ربح معركة البقاء فهو لم يتمكن من تنفيذ ولو قسط يسير من وعوده الانتخابية، وخصوصا ما يتعلق بمحاربة الفساد والاستبداد الذي اتخذه شعارا لحملته الأولى. وإذا كان "البيجيدي" يتخذ من مبدأ "الإصلاح من الداخل" نهجا للمشاركة السياسية، فليحذر من أن يكون "الإفساد من الداخل" نهجا لتحطيمه بعد فشل خيار الند الحزبي.

- أستاذ جامعي