في عصرنا الراهن تعرضت الكثير من المفاهيم التي كانت ثابتة الى الازاحة. "الغربة" هي واحد من تلك المفاهيم التي لم يعد استعمالها يشير إلى دلالالته السابقة.

ففي عالم اليوم يشكل الغرباء نسبة الاكثرية.

ترى الغرباء وهم يتنقلون بين المطارات والقطارات، لا يلتفت أحد منهم إلى سواه. لا لأنه لا يجد متسعا من الوقت بل لأن كل ما هو جاهز من الكلام لم يعد يعبر عن حقيقة ما يعيشه الإنسان الغريب.

الغرباء في كل مكان ولا أحد يشير إليهم بإعتبارهم غرباء، بل أنهم أنفسهم كفوا عن الشعور بالغربة. تعرض تعريف الوطن هو الآخر للإزاحة بما يذكر بمقولة تنسب إلى الامام علي "الارض التي حملتك".

لندن هي مدينة الغرباء بامتياز. ومن هنا جاءت عالميتها. فهذه المدينة قد فارقت مفهوم الهوية التقليدي ولم تعد تعبأ بانجليزيتها. الغرباء الذين صاروا أبناء لها انتقلوا بمستوى هويتها إلى درجة الخيال في انفتاحها وشفافيتها واتساع مضامينها.

في الماضي صنع الغرباء قارات، صارت اليوم رمزا لحياة ما بعد اللغة.

ما الولايات المتحدة؟ ما استراليا؟ ما كندا؟ ما نيوزلندا؟ ولكن القارة الاميركية الجنوبية ما هي إلا عبارة عن حقل شاسع روى الغرباء أشجاره فتوزعت الألسن بين لغتين، البرتغالية والاسبانية. ألا يتحدث سكان جنوب افريقيا هولندية لا يفهمها هولنديو اليوم.

الغرباء هم الذين صنعوا عصرنا العظيم هذا، بكل مجده وصلابته وغموضه. لولا الممرات الهوائية التي حلقوا من خلالها والانفاق التي حفروها ومشوا فيها خفية ليصلوا لفنيت الأرض ومن عليها، لا بسبب الحروب بل بسبب الملل.

المدهش في ذلك التحول أن الغرباء لم يعد بعضهم يتعرف على البعض الآخر بإعتباره غريبا أو مرآته التي تخفف من شجنه وترمم شيئا من ذاكرته. الذاكرة البشرية نفسها صارت تعمل بطريقة تلقائية من أجل انهاء مرحلة التلفت. فلا أحد يلتفت إلى الوراء وما من خوف من صعود تيارات سياسية يمينية تطالب بطرد الغرباء. ذلك لأن لندن على سبيل المثال لو أخليت من غربائها لصارت الأرض الخراب، كما وصفها جاري العزيز الشاعر تي أس اليوت.

كل أغاني الغربة صارت نوعا من الثناء على الماضي. قصيدة االعراقي بدر شاكر السياب التي كانت تعتبر من درر الشعر العربي الحديث "غريب على الخليج" أصبحت نوعا من الشجن الريفي الذي لا يفهمه الكثير من الغرباء. وقد يضحك البعض مما تنطوي عليه من سذاجة. ما يدفع صفة السذاجة انها كانت إبنة عصرها، بمفهومه الكئيب عن الغربة.

اليوم يتمنى الكثير من العرب لو تسمح له الظروف بنيل شرف أن يكون غريبا.

كم هو عجيب أن تكون الغربة صنوا للحرية والكرامة والصلح مع الذات والسلام مع العالم. لا يصنع الغرباء حروبا. من مصلحتهم أن يكون وجودهم مصدر اطمئنان لقلوب رعتهم بعاطفتها ولعيون حرستهم خوفا عليهم.

عالم اليوم هو أقرب إلى الكون الذي انطوت عليه فكرة بابل، امتزجت فيها الألسن فصارت اللغات غابة واحدة تنطق أشجارها بزقزقة عصافيرها الذهبية.

وإذا ما كانت أوروبا وهي قلب العالم المتحضر قد تخلت عن مبدأ الاندماج الذي حاولت أن تفرضه على الغرباء القادمين إليها من مختلف بقاع الدنيا فلأنها أدركت أن الغرباء يحملون إليها العالم، بفنونه وآدابه ومطباخه ورقصاته وأزيائه وعقائده وطقوسه ومسراته وفواكهه.

في كل المدن الاوروبية هناك اليوم متاحف حية يقيمها الغرباء في الهواء الطلق، لا يحتاج المرء إلى اذن خاص لدخولها. أليس مدهشا أن تحتل الأحياء الصينية قلب كل عاصمة؟

ولأن الغرباء لن يتخلوا عن كونهم غرباء فقد صار على العالم أن يعيد النظر في فكرته التقليدية عن الغريب الذي صارت بمثابة نموذج للإنسان الحي المعاصر.

الغرباء هم أبناء العصر الحقيقيون وهم بناته.

 

فاروق يوسف