المغرمون دوماً بنظرية المؤامرة كانت تعليقاتهم المتتالية منذُ ان اعلن رئيس مجلس الوزراء العراقي حيدر العبادي، بدء عمليات الحرب ضد تنظيم الدولة في الموصل، مواصلة الحديث عن انتهاء فاعلية هذا التنظيم، وصلاحيتهِ من قبل الجهات المُصنعة له، وبالتالي فأن بدء هذه المعركة هي لإطلاق رصاصة الرحمة كما يتصورون على هذا التنظيم للأبد. ولذا يرون ان المعركة محسومة مسبقاً نظراً لانتفاء الحاجة اليه من قبل صنّاعه.

طبعاً، وهؤلاء المؤمنون بنظرية المؤامرة، ينقسمون لمعسكرين في نسبة صانع التنظيم، الأول يرى ان التنظيم كان صناعة مشتركة بين ايران وسوريا، وبالتالي فأنهُ جرى استخدامه لتقديم خدمة كبرى لنظام الأسد بتوسيع ارض المعركة، وكسر الحدود حتى يتمكن المحور المساند للأسد من مد يد المساعدة، تحت قاعدة أن عجزت عن معالجة المشكلة، عليك بتوسيعها.

يقابلهُ معسكر أخر، يرى ان "داعش" صناعة اميركية – غربية، لتحقيق اهداف استراتيجية، من بينها ابعاد الخطر الأصولي الاسلامي عن الغرب، ونقل المعركة الى الشرق الاسلامي، وخوض معارك استباقية معه، وغيرها من اهداف أخرى يتوخاها المحور الاميركي من تصنيع هذا الوحش.

ومع اختلاف الاثنين في نسبة صناعة وحش تنظيم الدولة الاسلامية، الا أننا نختلف مع كليهما، فمن غير المقبول، ان نحيد عقولنا عن حدث نعرف اسبابه، وعن كائن نعرف مادتهِ الاساس التي شكلتهُ، وانتجتهُ بهذهِ الوحشية والقسوة. من غير المنطقي ان نغفل المُسببات التي كانت وراء انتشار هذا الوباء الذي فتك بالمنطقة برمتها.

ابداً، في الوقت الذي نرى فيه، ان محاولة لصق خلق التنظيم بأي محور من المحورين المتضادين، محاولة للهرب الى الأمام، وعملية دس للرؤوس في الرمل، فأننا لا ننكر ابداً، ان هذه المحاور المتصارعة استفادت من هذا التنظيم، أو على الأقل جرت عملية "تخادم" بينهما، وان يكن عبر مبدأ "عدو عدوي صديقي "!.

لذا فأن التنظيم وليد لحظتنا الراهنة، وليد شرعي لفشل الحكم الوطني في البلدان التي ظهر فيها، نتيجةً لاخفاق المشروع القومي الذي حاول القفز على المشاكل الكامنة والبنيوية التي تواجه الشعوب الاسلامية، وبناء نماذج غربية في الحكم، عبر الاستعانة بأدوات صناعة تلك الدول، دون الاستعانة بآلياتها الفكرية التي انتجت التحرر الذي قاد لنهضة أوربا، وبناء نماذجها المستقرة.

التنظيم وليد شرعي لفشل هذه الأنظمة، التي تحولت الى انظمة شمولية قامعة للإنسان وكرامتهِ، ومن ثم هو نموذج أخر لفشل النموذج الاسلامي، او قوى الاسلام السياسي المذهبية بطبيعة بنائها التنظيمي، والطائفية بأدبياتها التي تنشط فيها في هذه المجتمعات.

التنظيم المتشدد لم يكن صناعة غربية، بل هو جزء من محايثة لواقع اجتماعي سيء فاسد، وهو ناتج عمليات القسر والقمع والتعليم الديني المتشدد، هو جزء من صناعات الكراهيات التي تتنتجها مصانع عملاقة من مجامع الفقه الاسلامي المنتشرة في شرق العالم الاسلامي وغربه.

التنظيم ليس الا استدعاء لتاريخ حافل بالإنقسام، وتطبيق متأخر لتنظير يملئ بطون مدوناتنا الفقهية التي لا تبشر سوى باللون الواحد، ولا تؤمن الا بالفكرة المثالية التي يرعاها فقهاء يصرفون جل وقتهم لشرح مساوئ الطرف الأخر وذمه وتكفيره، أعني بالأخر ذلك المختلف في قراءتهِ لهذه المدونات الفقهية فحسب، اما الأخر الذي يُظن انه مناوئ فذلك لا يزال عند أكثر الفقهاء اعتدالاً، لا يمكن هضمه في أي عملية مقاربة.

التنظيم وليد عملية التيبس في انتاج آليات فحص تواكب التطور الذي يشهده العالم من عملية بناء حضاري، فيما لا تزال آلياتنا الفكرية عاجزة عن دخول زمن المعلوماتية الهائل.

بالعودة لعمليات تحرير الموصل التي تجري الآن، وتخوضها قوات عراقية متنوعة، فأننا على يقين بقدرة هذه القوات على الحاق هزيمة نكراء بهذا التنظيم وتخليص الموصل من مخالب الدولة الاسلامية، لكننا، وبصدق لا نستطيع الرهان على ان هذه الحرب الضروس ستكون النهائية مع هذا التنظيم او غيره!

قد لا نأتي بجديد حين نقول ان اعادة هذه التنظيم لانتاج نفسها سهلة للغاية، اذ ما استمرت ذات البيئة التي نمت فيها متوفرة، فما المطلوب فعله، كي نضمن عدم الوقوع في هذا الفخ مرةً أخرى؟

اعتقد اننا في العراق على الأقل قادرون على فعل ذلك، لكنهُ عمل بحاجة لشجاعة وتصميم حقيقيين، فمنع اعادة ظهور تنظيم داعش لا يمكن الحديث عنه وهناك بيئة "سنية" غاضبة متبرمة، تشعر بأنها منزوعة الحقوق والوزن في المعادلة العراقية الجارية الآن، ولذا فأن معركة تحرير الموصل مع اصوات المدافع وهدير الطائرات، ينبغي ان يُسمع صوت عقلاني يحاور كل الأطراف الفاعلة على الأرض من اجل تهيئة جو حقيقي لاحداث تسوية تاريخية، وانجاز مصالحة وطنية شاملة، او على الأقل تفاهم "مصلحي" بحدودهِ الدنيا، عبر معادلة تقاسم السلطات والثروة مقابل الأمن والاستقرار، فهل نشهد حلفاً كالذي يدك معاقل داعش الآن، يُعين العراقيين على انجاز هذه التسوية للإنتقال الى ضفة أخرى! ننتظر لنرى!

 

حيدر قاسم الحجامي