مرت انتخابات 7 أكتوبر 2016 لتزيد الوضع السياسي تعقيدا بعد أن انتعشت بعض الآمال في بلورة وعي إيجابي لدى أوسع الناخبين بما يستوجبه عليهم حسهم الوطني من مبادرة لوقف النزيف وتغيير مسار الانحراف الذي يقود الشعب والوطن إلى الفتنة الطائفية قبل اندلاعها وقد حُشد لها ما يكفي من عوامل الإيقاظ والإيقاد . فمنذ تولى حزب العدالة والتنمية قيادة الحكومة عقب انتخابات 2011 ، وماكينة الشحن الإيديولوجي والتحريض الطائفي تشتغل في الصمت كما في العلن ، حتى أوهموا فئات واسعة من المواطنين أن المغرب يعيش حربا دينية بين طائفتين : طائفة تناصر الإسلام وأخرى تحاربه .

وهذا المنحى يخدم أهداف دعاة الفتن ، وفي مقدمتها نقل الصراع السياسي بين قوى التحديث والدمقرطة والانفتاح على المستقبل وقوى المحافظة والانغلاق الفكري والردة الحقوقية من المجال السياسي إلى المجال الديني تأسيسا للاستبداد السياسي باسم الشريعة. لأجل هذا تواطأت رئاسة الحكومة وقطاعها في العدل مع دعاوى التكفير والتحريض على الكراهية التي باتت تغزو المواقع الاجتماعية ، بحيث اتسع نطاقها ليجاوز تكفير الأفراد ، سياسيين ومفكرين وصحافيين وفنانين، إلى تفكير المؤسسات ومسئولين حكوميين دون أن تطاولهم يد العدالة. وقد ازداد أوراها قبل الانتخابات وخلالها حتى إن رموز التكفيريين أفتوا بوجوب التصويت على حزب العدالة والتنمية شرعا ومناصرة مرشحيه”الأخيار” ضد منافسيه “الأشرار”؛علما أن الانتخابات هي فرصة للتنافس بين البرامج الانتخابية على إقناع الناخبين بجدواها في معالجة المشاكل الاجتماعية والاستجابة لانتظارات المواطنين .

وهذه خطة متعمدة من رئاسة الحكومة لشغل المواطنين عن مشاكلهم الحقيقية وإبعادهم عن الانشغال بالشأن العام حتى لا يدركوا فشل الحكومة في حسن تدبيره . وهنا ينبغي التشديد على أن مسئولية صرف انتباه المواطنين عن مشاكلهم اليومية التي لم تقدم لهم الحكومة أي حلول لمواجهتها ( البطالة ، التهميش ، الفقر ، الخدمات الصحية والاجتماعية ..) لا تتحملها فقط الحكومة ، لكن تتقاسمها معها الأحزاب السياسية والهيئات النقابية والحقوقية . كل هذه التنظيمات والهيئات اقتصرت على ردود الفعل المحدودة في الزمن والمكان ولم تضع خطة مدروسة ممتدة في الزمن تتصدى لمخططات الحكومة عبر ما يتيحه لها العمل المؤسساتي من داخل البرلمان أو النضالات الاجتماعية في كل القطاعات والمدن .

على مدى خمس سنوات ، والحكومة منخرطة بكل إصرار في إستراتيجية بعيد المدى تروم الإجهاز على كل المكتسبات المادية والاجتماعية لأوسع فئات الشعب المغربي ، وفي مقدمتها فئة الموظفين والمأجورين وحملة الشهادات الجامعية وخريجي المدارس والمعاهد . كل هذه الفئات المتضررة مباشرة بقرارات الحكومة وجدت نفسها في المواجهة دون تأطير نقابي وحزبي جاد ومستميت يجعل من قضاياها معركة سياسية واجتماعية مصيرية يعبئ لها أوسع الفئات الاجتماعية تكون فيما بعد خزانا انتخابيا للقوى السياسية التي تتبنى مطالبها وخاضت معها معاركها. إذ في الوقت الذي كانت الأذرع الدعوية لرئاسة الحكومة تخوض معاركها باسم الدين ، كانت باقي الأحزاب وهيئات المجتمع المدني المعنية بالحداثة والديمقراطية منشغلة بالصراع الداخلي على المناصب والمواقع أو مكتفية بإصدار البيانات وتنظيم وقفات تعطي الانطباع للحكومة أن هذه الهيئات معزولة عن محيطها الاجتماعي مما يفقدها أية وسيلة ضغط فعالة .

فالجو العام الذي أشاعته الهيئات النقابية مثلا حين كانت الحكومة تعد مشروع قانون التقاعد أو تعرضه على المناقشة داخل غرفتي البرلمان ، أوحى للموظفين والمأجورين أن التواطؤ والخذلان والاتجار في الملفات هو سيد الموقف .كما أن الوقفات الاحتجاجية المحتشمة التي دعت إليها الجمعيات النسائية شجعت الحكومة على المضي في إخراج مشاريع قوانينها وأطلقت لسان السيد بنكيران همزا ولمزا في حق إطاراتها. كل هذه الوقائع والمعطيات دفعت فئات واسعة من المواطنين إلى اتخاذ مواقف سلبية من العملية السياسية ومن الانتخابات . وهذا أمر مفهوم ورد فعل منتظر من أي شريحة اجتماعية أو مهنية وجدت نفسها في العراء دون سند نقابي أو حزبي يُسمع صوتها ويؤطر نضالها ويقود معاركها . فلا ننتظر من الشعب أن يتبلور لديه وعي سليم في غياب التأطير .

كما لا ينبغي أن نترك الشعب يقرر كيف يدافع عن حقوقه والأساليب التي يعتمدها والسبل التي يسلكها . فالغضب والاحتقان والغبن إن اجتمعت في أي شعب دون إطارات سياسية ونقابية توجهه وتوحد قواه ومطالبه فلن تقود إلا إلى الفتن التي سيستغلها أعداء الشعب والديمقراطية والكرامة ، ولن تنبت ، في مجتمعاتنا إلا التطرف والدعوشة . من هنا يمكن القول إن الشعب المغربي هو الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات ، خسر خيراته ومعها قراره السيادي بفعل الارتهان إلى المؤسسات المالية الدولية التي جعلت الحكومة مدينا لها ب828 مليار درهم (83% من الناتج الوطني الخام) ؛وتراجع في مجال التعليم 50 سنة إلى الوراء عما كان عليه سنة 2011 . بل سيخسر مستقبله بعد انخراط الحكومة في خوصصة التعليم والصحة واستغلال الموانئ وستليها قطاعات أخرى تفقد الدولة السيادة عليها (الفوسفاط ، المعادن ،الملاحة التجارية ..).هكذا فقد الموظفون حقوقهم ومكتسباتهم ،وفقد الشباب فرص التوظيف والتشغيل ، ليفقد الشعب شروط العيش الكريم وفرص بناء الديمقراطية الحقة ودولة المؤسسات . مهما كانت خسارة حزب في الانتخابات يمكن تداركها في بضع سنين ، لكن خسارة الشعب تكلفه جهود عقود وأجيال .


سعيد الكحل