مصطفى المسناوي

قبل حوالي ثلاثة أسابيع، عثرت إحدى الأمهات في الحقيبة المدرسية الخاصة بابنتها ذات الثماني سنوات على رسالة ذُيّلت برسم قلب جريح يخترقه سهم وتضمّنت العبارات التالية: «... أوريد أن ألتقيكي (أريد أن ألتقيك) في ساحة السبور (الرياضة) مع الساعة 10 سباحن (صباحا). وأوريد أن أوحديتكي (أحدثك) في موضوع يوهمني (يهمني) أنا وأنتي. وأنتدروكي (أنتظرك) بفارغ الصبر. أوحبوكي وأرزو منكي أن تأتي» أصيبت الأم بذهول، خاصة أن الطفلة -التي تدرس في القسم الرابع الابتدائي بمدرسة عمومية- قالت إنها لا تعرف من أين جاءت الرسالة ولا من دسّها في حقيبتها. الخيط الهادي الوحيد كان التوقيع المصاحب لرسم القلب الجريح، والذي يشير بالتأكيد إلى شخص واقعي يتعين البحث عنه في المكان الذي توجد به ساحة «السبور» الواردة في السطور أعلاه، وهو مدرسة الطفلة الصغيرة في اليوم الموالي، ذهبت الأم -في ما يرويه أحد المواقع الإلكترونية الإخبارية ببلادنا- إلى المدرسة لتكتشف أن كاتب الرسالة ليس سوى تلميذ من سن ابنتها يدرس معها في المدرسة ذاتها. وقد كانت مفاجأتها أكبر حين ووجهت ببرودة تامة من قبل معلمة ابنتها ومدير مدرستها الذي قال لها ما معناه أن هذا الأمر عادي تماما ولا يتطلب الانزعاج، وأن رسالة الغرام التي توصلت بها طفلتها ليست استثناء في ظل انتشار واسع لهذا النوع من الرسائل في المدرسة المغربية، من الابتدائي فصاعدا.


والواقع أن السيد المدير محق تماما في ما قاله، فحكايات الغرام المتبادل بين الأطفال صارت شيئا عاديا تماما، ليس ابتداء من سنّ السابعة أو الثامنة فقط، بل وربما قبل ذلك بكثير (يتحدث بعض الخبراء عن وقوع أطفال في الحب بعد الفطام مباشرة)؛ كما يمكننا اعتبار هذه الواقعة دليلا إضافيا على اتساع الهوة بين الآباء وأطفالهم في وقتنا هذا، حيث يعتقد الآباء أن سلالتهم تعيش حياتها الدراسية بالطريقة ذاتها التي عاشها بها أسلافها، متناسين أن الأجيال الصاعدة، وخاصة منها الجيل الحالي، تخضع لتأثيرات (اجتماعية - ثقافية) مستجدة، لا يمكنها إلا أن تنعكس على طريقة فهمهم للحياة وعلى علاقاتهم بمحيطهم المباشر وغير المباشر.


لقد التحق الآباء بالمدرسة في وقت لم تكن قد ظهرت فيه «الأنترنيت» بعد، ولا شاشة «الإيل سي دي» الملونة من نوع 16/9، أو «الشات» أو الهاتف المحمول أو«الإيسيميس»؛ كما لم تكن التلفزة المغربية قد اقتنت المسلسلات المكسيكية المدبلجة إلى لغة الشارع (التي يقول البعض إنها هي «الدارجة المغربية» الحقة) بعد وشرعت في تصويبها نحو الجميع، صغارا وكبارا، نسوة ورجالا، بدوا وحضرا،... بما يعني أن هؤلاء الآباء كانوا يعيشون خارج الحياة، وبالتالي فإن عليهم، بدل التأسف على مصير فلذات أكبادهم الذين صاروا يبعثون رسائل الغرام ويتوصلون بها في وقت مبكر من حياتهم، أن يتأسفوا على مصيرهم هم بالذات وحياتهم الضائعة التي لم يتلقـّوا فيها أية رسالة لا في سنّ الطفولة ولا في غيره، فكانوا كمن قضى لحظة مفصلية في حياته تحت «قفة مقلوبة»، كما نقول في المثل المغربي لقد تجاوز أطفالنا «انغلاقنا» التاريخي، وصاروا «ينفتحون» على العالم منذ نعومة أظفارهم، ويتعلمون أشياء كنا نجهلها (بل وما زلنا نجهلها حتى اليوم، وربما تواصل جهلنا بها إلى الأبد)، وتلك سـُنـّة التطوّر التي لا مفر منها؛ وما رسائل الحب والغرام التي صارت تدسّ في الحقائب هنا وهناك سوى دليل إضافي على اندراجنا الذي لا مفرّ منه ضمن مسيرة النموّ الكوكبية التي جعلتنا نبزّ العالم أجمع ونخرج من عصر «مدرسة التفوق والنجاح» لندخل، بخطى واثقة سديدة، عصر «مدرسة الغرام».. أي عصر المستقبل..