ما ان تشتعل شرارة الازمات حتى توضع في قلب الحدث طاولة المفاوضات.

هم اولئك الدبلوماسيون الرشيقون ببدلاتهم الانيقة تسبقهم حقائبهم ومساعديهم والورق الجاهز لالقاء الخطابات.

العرب شهدوا ذلك منذ تحضير اميركا لاحتلال العراق وصولا الى الازمات الطاحنة التي ضربت ليبيا وسوريا واليمن.

نيران مشتعلة هنا ودبلوماسية تتحلق حول موائد المفاوضات في وقت واحد هناك. لكن لماذا يترك هذا العالم الذكي النيران لتستعر وتتسع ثم بعد ذلك يفرد طاولاته للتفاوض؟ لماذا لا يجري تدارك تلك الكوارث الرهيبة قبل ان تقع؟

اترى مهنة اولئك الدبلوماسيين المتمرسين لا تكتمل الا وهم شهود على تعقيد الازمات وشبه استحالة حلها بالبيانات والمناشدات؟

في الازمة السورية تتابع المبعوثون الامميون منذ كوفي أنان فالاخضر الابراهيمي حتى دي مستورا وكلهم حملوا ذات الديباجات للنظام الذي كان يستقبل اكداس الخطابات والدعوات الاممية بأذن صماء وعين لا تبصر، فالنظام لا يريد اصلا ان يرى الا ما نشأ عليه وعوّد اتباعه عليه ولا يريد ان يسمع الا ما يطربه ويمنحه فرص حياة اخرى يتمدد فيها.

شهدت جنيف جلسات ماراثونية متعددة، خذ تصريحات اولئك المبعوثين الاممين، وسطاء في الازمة السورية، كلهم كانوا يتحدثون عن اتفاقيات وتفاهمات، وكأنها تخيلات، فالنيران مشتعلة تحصد الاخصر واليابس فيما حديث الاتفاقيات الافتراضية لا يريد ان ينتهي.

واما ساعة حج السياسيون الى جنيف والى اسطنبول والى مدن وحواضر عربية وعالمية اخرى تحت شعار اصدقاء سوريا فقد كانت ديباجات الخطابات حول المستقبل المشرق لسوريا هي اكثر من ان تحصى وكلها تحمل في طياتها تصوّرات وخرائط طريق حتى تشعبت الطرق بينما بقيت الازمة السورية تراوح مكانها بل تزداد تعقيدا وضراورة وبشاعة.

كان اطلاق مزيد من خرائط الطريق للأزمة السورية في كل مرة يرافقه بالصدفة المحظة ولادة جماعات "جهادية" وفصائل وكتائب واندماج الوية وولادة اخرى وصراعات بين النصرة وداعش واحرار الشلام وجيش الاسلام ثم تدخل ايراني وتدخل لحزب الله ليعبر ذلك المشهد المحتدم عن خرائط متعددة ومتشابكة فلكل تيار ولواء وكتيبة وجماعة خريطة طريق خاصة به.

جنيف هي قبلة المتفاوضين، اجتماعات ومؤتمرات سواء في شأن الحروب والصراعات: ليبيا واليمن وسوريا، كانت هناك معارضة وموالاة وممثلو دول كبرى ورعاية اممية الكل جالسون حول الطاولة التفاوضية، حتى تعددت الارقام المتسلسلة المرتبطة بالمدينة من جنيف 1 ولا ندري الى اي رقم جنيف سننتهي.

اترى هذه الحصيلة التي تتمثل في الاتفاقيات والتفاهمات وخرائط الطريق صارت اختصارا لشهادة الزور الاممية على ما يجري من دمار في هذه البلدان؟

والا كيف يفسر استسهال حل الازمة السورية بأبعادها الكارثية بترحيلها مرة اخرى الى جنيف جديدة يعاد فيها انتاج النظام بطريقة اممية غرائبية وتتخبط الدول المعنية في تقديم قوائم واضحة وموضوعية بالفصائل الارهابية ومن هي غير الارهابية.

والحال في شأن الازمة الليبية يدخل مدخلا آخر فبعيد تبادل التهاني على الاتفاق الاخير في الصخيرات المغربية واعلان انه بداية عهد جديد في ليبيا واذا بممثل الامين العام يتبع ذلك بعد عدة ساعات فقط من مظاهر البهجة بأن الاوضاع في ليبيا لجهة انتشار داعش في عدة مدن ليبية يحتاج الى ضربات جوية وتدخل عسكري لكي يطبق الاتفاق بشكل صحيح.

الحاصل ان مسألة التدخل بالقاصفات والبوارج الحربية وغيرها يبدو انها صارت لزوم ما يلزم في وسط هذه الدوامة، اذ تتداخل رائحة البارود ودخان الحرب مع رائحة القهوة التي تدور على المجتمعين حول طاولة النقاش والتفاوض في جنيف وغيرها.

اتراه تأسيسا ابديا لهذه التراجيديا التي لا مثيل لها؟ ان هذا هو بالضبط سيناريو العمليات الجراحية التي تجريها الدول الكبرى للدول الاضعف في العالم العربي وان على العربي الغارق في ازماته سواء في العراق او اليمن او ليبيا او سوريا ان يدرك ان عليه ان يمر بجميع المراحل: الحرب الاهلية والانقسام المجتمعي، ضياع البوصلة التي توجه النظام السياسي، الخراب الاقتصادي، دمار البنى التحتية وفي مقابل كل هذا جلسات الحوار والمفاوضات مع تجميل الصورة البشعة والتي منها ان علي عبدالله صالح مثلا مازال حاضرا في المشهد اليمني وكذلك بشار الاسد برغم كل ما جرى ويجري.

 

طاهر علوان