في استحقاق برلماني قفزت فيه نسبة المشاركة إلى 87.1%، تمكن حزب العدالة والتنمية من ترميم شعبيته واستعادة تربعه على عرش السياسة التركية بعدما حقق إنجازا تاريخيا بانتزاع نسبة 49.5% من أصوات الناخبين، بما يتيح له تحصيل 316 مقعدا من أصل 550 هي إجمالي مقاعد البرلمان التركي.

ولما كان هذا الإنجاز الانتخابي المبهر وغير المتوقع قد تأتى وسط ظروف محلية وإقليمية غاية في الاضطراب والتعقيد، يطل برأسه التساؤل بشأن قدرة حزب العدالة على تحويله إلى نجاح سياسي حقيقي ومتواصل يتيح استبقاء شعبية أردوغان ويكفل الحيلولة دون تصدع الحزب وإنهاء أزمته البنيوية التي كادت تنذر بانهياره، إثر انشقاق بعض قياداته الناقمين على سياسات أردوغان مثل عبد الله غل وبولنت أرينش وعلي باباجان الذين فكروا جديا في تكوين حزب سياسي جديد من رحم حزب العدالة، كدأب النظام الحزبي في تركيا، وكما أتى حزب العدالة من رحم حزب الرفاة.

وقد حذر خبراء أتراك من مصير لحزب العدالة يشبه ذلك الذي آل إليه حزب الوطن الأم الذي تلاشى كلية من المشهد السياسي التركي بعدما غادره رئيسه تورغوت أوزال لتولي رئاسة الجمهورية مطلع تسعينيات القرن المنصرم.


وقد تسنى لحزب العدالة اكتساح الانتخابات البرلمانية وانتزاع أصوات نصف الناخبين مقابل شيك مؤجل الدفع انطوى على وعود براقة بتحسين أحوال الأتراك على كافة الصعد، قطعها على نفسه وتعهد بتحقيقها حالة فوزه بالانتخابات ومعاودة تشكيل الحكومة منفردا. ومن ثم سيكمن التحدي الماثل أمامه في مدى استطاعته الوفاء بتعهداته تلك في ظل بيئة محلية وأجواء إقليمية وأوضاع دولية غير مواتية على الإطلاق، حيث تنتظر حزب العدالة في الحكومة والبرلمان خلال السنوات الخمس المقبلة تحديات داخلية وخارجية جسام.

فداخليا، ما برحت أجواء الاستقطاب السياسي الحاد تلقي بظلالها على المشهد السياسي التركي، مع تفاقم الاحتقان الكردي من تيبس عملية السلام مع الحكومة وتنامي تذمر حزب الشعوب الديمقراطي من نتائج الانتخابات، حيث لم يتورع زعيم الحزب صلاح الدين ديمرطاش عن تحميل أردوغان والحكومة مسؤولية تراجع حصيلة حزبه من الأصوات والمقاعد البرلمانية على خلفية اتهامهم إياه بالتواطؤ مع حزب العمال الكردستاني، ثم تضييقهم على مرشحيه ومندوبيهم قبيل الانتخابات، وملاحقة الأجهزة الأمنية لنواب الحزب البرلمانيين ورموزه بمن فيهم ديمرطاش نفسه.

هذا فضلا عن دمج صناديق الاقتراع في المناطق الكردية أثناء الاقتراع، وقصر وجودها على المدن دون القرى بذريعة منع التلاعب أو التزوير، الأمر الذي أحاط عملية التصويت بصعوبات عديدة حالت دون إدلاء قطاع واسع من الناخبين الأكراد -لاسيما المؤيدين منهم لحزب الشعوب- بأصواتهم. 

ولم يفتأ ديمرطاش يشكو عدم تمكن حزبه من القيام بالدعاية اللازمة خلال الانتخابات نتيجة استئناف أعمال العنف في المناطق الكردية، والتي يعتقد بأن الحكومة أججتها لتهيئة مناخ من عدم الاستقرار.

كما يتهم الرئيسَ أردوغان -المفترض أن يسمو بنفسه فوق الخلافات والمنافسات السياسية- بتبني حملة لحشد التأييد لحزب العدالة، الأمر الذي منع مرشحي حزب الشعوب من الترويج لحملاتهم بسبب اضطرارهم لحماية مواطنيهم من أعمال العنف، حيث علّق الحزب حملته الانتخابية بعد تفجيرات أنقرة. لذا أطلق الأكراد في ديار بكر موجة من أعمال الشغب احتجاجا على نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، بعدما أظهرت مؤشراتها الأولية تراجع نسبة الأصوات التي تحصل عليها حزب الشعوب.

وفي ذات السياق تستبد بأكراد تركيا مشاعر إحباط جراء المخاوف من عدم إقدام حزب العدالة على استئناف عملية السلام مع الحزب الكردستاني بما يساعد على حقن الدماء وطي صفحة مأساوية امتدت لأربعين عاما من المواجهات التي أزهقت أرواح أكثر من أربعين ألف قتيل من الجانبين، خصوصا بعدما تجددت المواجهات المسلحة بينهما منذ أغسطس/آب الماضي، في الوقت الذي بدأ إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية(داعش) ومؤامرات مخابرات نظام بشار الأسد يتسللان إلى أعماق الداخل التركي عقابا لأنقرة على موقفها حيال ما يجري في سوريا.

وبالتزامن، ألقى بظلاله تصاعدُ وتيرة الخلافات والانقسامات التي ضربت أطنابها منذ فترة داخل حزب العدالة بين أردوغان وثلة من قيادات الصف الأول بالحزب حول أمور عديدة أبرزها: مسألة إصرار أردوغان على تبني النظام الرئاسي بغية توسيع صلاحياته، وإصراره على التدخل المتواصل في شؤون الحزب رغم انتهاء صلته القانونية به بعدما بات رئيسا للبلاد، وتعمده إحلال شباب موالين له بدلا من الآباء المؤسسين ورجالات الحرس القديم على نحو أفضى إلى اندلاع صراع أجيال وأجنحة داخل الحزب.

هذا فضلا عن الجدل بشأن مواصلة عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني، واتساع قاعدة معارضي الحزب سواء من الأتاتوركيين الرافضين "لتديين" المجتمع أو الناقمين على سلطوية أردوغان ومساعيه لإعادة إنتاج السلطنة العثمانية، وما نتج عن ذلك من تضييق اجتماعي وسياسي وإعلامي، أو المتضررين من سياسات أردوغان حيال الثورة السورية، أو حتى أولئك الذين ما عاد يكفيهم الإنجاز الاقتصادي لغض الطرف عن تآكل مكتسبات سياسية وثقافية عديدة مهمة، إلى جانب انتشار الفساد والرشوة، وهي الأمور التي انعكست سلبا على شعبية الحزب الحاكم في الشارع التركي وكادت تفتك بتماسكه التنظيمي.

وفي خضم ما سلفت الإشارة إليه يطل برأسه عدم اتضاح معالم العلاقة بين أردوغان ورئيس الوزراء ورئيس الحزب أحمد داود أوغلو، فبينما لم توضع بعدُ أسس النظام الرئاسي الذي ينشده أردوغان بما يضع ملامح وركائز دستورية لاختصاصات كل منهما، لن يتورع داود أوغلو عن السعي جاهدا لاستثمار نتائج الانتخابات الأخيرة بغية إثبات وجوده وتأكيد استقلاليته ودوره ومكانته داخل الحزب والسلطة التنفيذية بل والنظام السياسي برمته، خصوصا بعد إعادة انتخابه رئيسا للحزب خلال مؤتمره العام الخامس قبل أسابيع، بينما كانت المؤامرات تحاك ضده سرا داخل أروقة الحزب للإطاحة به من الرئاسة حالة خسارته لتلك الانتخابات المبكرة.

أما على الجانب الآخر فإن أردوغان يرى في ما تحقق من إنجاز انتخابي نصرا لزعامته باعتباره صاحب قرار الامتناع عن الاستسلام مبكرا لتشكيل حكومة ائتلافية، مستخدما حقه الدستوري في حرمان زعيم حزب الشعب الجمهوري الذي حل ثانيا في انتخابات يونيو/حزيران الماضي من تشكيل الحكومة، ومؤثرا الاحتكام إلى انتخابات برلمانية مبكرة، وسط ظروف سياسية واقتصادية وأمنية قلقة أوجدتها الحرب على حزب العمال الكردستاني والهجمات "الانتحارية" التي تبنّاها "داعش".
 
تبقى الإشارة في هذا المضمار إلى أن نجاح حزب العدالة اللافت في الانتخابات البرلمانية الأخيرة لم يكن ليتيح لأردوغان بلوغ غاياته وتحقيق مآربه في استكمال مشروع "تركيا الجديدة"، فرغم أن الحزب ضمّد بتلك النتيجة جراحه التي نكأتها انتخابات يونيو/حزيران الماضي، فحصيلته الجديدة وغير المتوقعة من الأصوات -وإن خولته تأليف الحكومة منفردا- لم تتح له مباشرة مشروعه الرامي إلى تعديل الدستور الحالي أو وضع دستور جديد يكون بمثابة ركيزة لإطلاق "تركيا الجديدة" كما يكفل تحويل نظام الحكم إلى النظام الرئاسي، حيث يحتاج إلى 330 مقعدا برلمانيا للدعوة إلى استفتاء شعبي لهذا الغرض، بينما يحتاج إلى 376 مقعدا -أي ثلثي مقاعد البرلمان- من أجل إقرار خطوة كهذه دون اللجوء إلى إجراء استفتاء شعبي.

وهذا الأمر سيضطر الحزب الفائز للدخول في مفاوضات والتوصل إلى تفاهمات مع برلمانيين حزبيين أو مستقلين لاستكمال أي من النصابين، وهو ما قد يتطلب تقديم تنازلات وترضيات مؤلمة وقد لا تمضي بسلام. 

وعلى الصعيد الخارجي، وبينما لا يبدو حزب العدالة مضطرا لتغيير سياساته الخارجية بضغط من شركاء له في الحكومة بعدما انفرد بتشكيلها، لا تزال تتربص بالحزب تحديات جمة، أبرزها استمرار تأجج الأزمة السورية مع تغير الأوضاع العسكرية والسياسية لمصلحة الأسد عقب تعاظم الدعم الروسي له وتحول موسكو بعد تدخلها العسكري المكثف إلى طرف مباشر في الأزمة تُدهوِر علاقات أردوغان مع غالبية دول الجوار الإقليمي إلى الحد الذي وضع تركيا بين فكي الكماشة الروسية السورية.

ناهيك عن اهتزاز الثقة بين أنقرة وواشنطن على خلفية الأزمة السورية، وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، فضلا عن تعقد الموقف التفاوضي لتركيا فيما يخص مساعي الانضمام إلى الاتحاد الأوربى، على نحوٍ بدا جليا في ردود أفعال الدول الغربية إزاء نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، إذ عبّرت عن أسفها لأجواء العنف التي سادت حملة الانتخابات، كما انتقدت ضغوط الحكومة على الصحافة المستقلة وتضييقها على المعارضة، وأدانت حملات الاعتقال والدهم التي شنتها الحكومة ضد أشخاص ومؤسسات تابعين لما يسمى "الكيان الموازي" الموالي للداعية فتح الله غولن في أعقاب الانتخابات مباشرة.

ورغم ما تمتعت به من مستوى نزاهة لا بأس بها، يشاطر الغرب قطاعا من الأتراك مخاوفه من أن تعيد نتائج الانتخابات البرلمانية المبكرة الأتراك إلى نظام ديمقراطية الحزب الوحيد المهيمن، بقيادة مؤسسه وزعيمه الروحي أردوغان الذي لم تخبُ جذوة أحلامه الشخصية وتطلعاته السلطوية على نحو تجلى في استمرار مساعيه لإحكام قبضته على مفاصل السلطة في البلاد وتحويل نظام الحكم إلى نظام رئاسي يتيح له البقاء في السلطة لفترتين رئاسيتين متتاليتين حتى يدرك العام 2023، ليعلن إطلاق "تركيا الجديدة" أو تدشين الجمهورية التركية الرابعة.

بشير عبد الفتاح