هناك انطباع يخرج به من  يزور نيويورك، حيث مقرّ الأمم المتحدة، وواشنطن دي. سي. عاصمة القوّة العظمى الوحيدة في العالم. يتمثّل هذا الإنطباع في انّ لا فائدة كبيرة تذكر من المنظمة الدولية التي تحتفل هذه الأيّام بالذكرى السبعين لقيامها. امّا بالنسبة الى واشنطن، فهناك تغيير كلّي، بل انقلاب، ليس في السياسة الأميركية حيال الشرق الأوسط فحسب، بل في طريقة اتخاذ القرار في الدوائر العليا ايضا. لذلك يبدو ارسال عدد من الجنود الأميركيين من القوات الخاصة الى سوريا، اقرب الى نكتة من اي شيء آخر، وذلك في وقت هناك وجود ايراني كبير مباشر وغير مباشر على الأرض السورية، وهناك قوات روسية تقاتل بكلّ الوسائل من اجل انقاذ نظام بشّار الأسد الذي لا مجال لإنقاذه. ربّما بات من الخطأ استخدام عبارة الدوائر العليا في واشنطن. لم تعد هناك في الواقع سوى دائرة عليا واحدة هي الدائرة الصغيرة المحيطة مباشرة بباراك اوباما. هذه الدائرة، التي لا تعرف الكثير عن الشرق الأوسط، جعلت الأولويات الأميركية مختلفة تماما، خصوصا بعدما استطاعت الولايات المتحدة التقليل من اعتمادها على نفط الخليج. هناك اتجاه اميركي الى التركيز على منطقة المحيط الهادىء وعلى علاقات من نوع جديد مع اوروبا التي اصبحت واشنطن تتعاطى معها من منطلق انها القارة العجوز التي عليها ان تتدبّر امورها بنفسها، بما في ذلك المشكلة الناجمة عن تدفّق اللاجئين السوريين بالآلاف على دولها. على سبيل المثال وليس الحصر، يُعتبر بلد مثل اليمن في غاية الأهمّية بالنسبة الى الأمن الخليجي. اليمن ليس على لائحة الأولويات الأميركية في اي شكل. هناك سعي عربي لمنع سقوط اليمن وتحوّله الى مستعمرة ايرانية. في المقابل، ليس ما يشير الى انّ الإدارة الأميركية تعي هذا الواقع. هناك بالكاد، في واشنطن، حديث خافت عن اليمن وعن ضرورة عدم تحوّله الى بؤرة للإرهاب مستقبلا. ليس هناك وعي اميركي من اي نوع، اقلّه في دائرة القرار، لمعنى إنهيار السلطة المركزية في صنعاء ولإفلات الجنوب من اي ضوابط ومن قدرة "القاعدة" و"داعش" على ملء الفراغ الناجم عن ذلك. الأخطر من ذلك كلّه، ان لا وجود في واشنطن لأيّ تقدير لخطورة الظاهرة الحوثية ومدى ارتباطها العميق بايران وميليشياتها المذهبية في المنطقة. فوق ذلك، لا اهتمام يذكر في الدوائر الأميركية لظاهرة الميليشيات المذهبية التي ترعاها ايران، من لبنان الى سوريا، الى العراق، الى اليمن، والتي تعتبر مكملة لـ"داعش"و"القاعدة"، خصوصا انّ كل ما تفعله هذه الميليشيات هو ايجاد حاضنة شعبية ينمو فيه الإرهاب والتطرّف السنّيين، خصوصا في سوريا والعراق واليمن. لعلّ اكثر ما يلفت النظر في واشنطن وجود مراكز ابحاث تضمّ عددا كبيرا من المختصين والخبراء الذين يعرفون الكثير عن المنطقة. هناك شبه اجماع لدى هؤلاء على انّ لا تأثير يذكر لمراكز الأبحاث وحتّى لوزارة الخارجية على الدائرة الضيقة التي يتّخذ فيها القرار. السفير الأميركي المهمّ هو ذلك الذي لديه علاقة مباشرة بالبيت الأبيض. في ما عدا ذلك، لا قيمة لسفراء الدولة العظمى الذين باتوا مجرّد موظّفين في ادارة كبيرة تتحكّم بها الإجراءات البيروقراطية. نعم، هناك اميركا جديدة. اميركا باراك اوباما التي لا يمكن الرهان عليها في سوريا او العراق او اليمن... او لبنان. اميركا هذه معجبة بايران. لا تطرح هذه الإدارة سؤالا في غاية البساطة. هذا السؤال مرتبط بما ستفعله ايران في حال رفع العقوبات الدولية عنها والإفراج عن مليارات من الدولارات العائدة لها في ضوء توقيعها الإتفاق في شأن ملفّها النووي؟ اين ستوظف هذه المليارات؟ هل توظفها في دعم الميليشيات المذهبية التي تعمل على تدمير المجتمعات والبنى التحتية في لبنان وسوريا والعراق واليمن بعدما سعت قبل فترة قصيرة، لكنّها فشلت، في تحويل البحرين الى محافظة ايرانية؟ مثل هذا النوع من الأسئلة لم يعد مطروحا في واشنطن. لذلك، لم يعد امام معظم العرب سوى تحمّل مسؤولياتهم. فعلوا ذلك في مصر حيث ساعدوا الشعب المصري في التخلّص من نظام الإخوان المسلمين. وفعلوا ذلك في اليمن حيث لم يكن من مجال سوى للتصدّي لـ"انصار الله" الذين ذهبوا الى طهران لتوقيع اتفاقات عسكرية واقتصادية من منطلق ان الحوثيين قاموا بثورة وسيطروا على البلد كلّه وباتوا يمثّلون "الشرعية الثورية". من يتذكّر الخطاب المشهور لعبد الملك الحوثي الذي تحدّث فيه "ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر" وذلك في اليوم الذي سيطر فيه الحوثيون على صنعاء بالكامل؟ كان ذلك في العام 2014، اي في تاريخ لم يمرّ بعد عليه الزمن! تغيّرت اميركا. انعكس ذلك على الأمم المتحدة التي تبدو حاليا عاجزة عن الإقدام على اي خطوة في اي اتجاه كان. لعلّ الدليل الأوضح على ذلك تحوّل المنظمة الدولية الى شاهد زور على المأساة السورية. لم يشهد العالم مأساة من هذا المستوى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. قامت الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية بغية تفادي تكرار المآسي التي رافقت تلك الحرب.  للمرّة الأولى هناك تهجير لما يزيد على عشرة ملايين شخص، فيما الأمم المتحدة لا تحرّك ساكنا. هل من مأساة اكبر من هذه المأساة؟ هل من عجز اكبر من هذا العجز؟ الى ايّ حدّ سيذهب باراك اوباما في تغيير اميركا؟ الثابت انّه غيرّ السياسة الخارجية للولايات المتحدة على نحو جذري. نفّذ انقلابا بكلّ معنى الكلمة. السؤال الآن هل يستمر الإنقلاب وتصمد مفاعيله وتترسّخ ام تنتهي هذه المفاعيل مع نهاية ولاية  أوّل رئيس أسود للدولة العظمى الوحيدة في العالم؟  


خيرالله خيرالله