تبذل إدارة باراك أوباما جهدها، من خلال مواقف كبار المسؤولين فيها، لإقناع المشككين بأن خطوتها الأخيرة بإرسال 50 جندياً إلى أرض المعركة في سورية، لا تعتبر تراجعاً عن قرارها السابق بالابتعاد عن التدخل المباشر في الحرب، وعدم «وضع أحذية على الأرض»، كما تقول العبارة الانكليزية (no boots on the ground). فأكثر ما يقلق هذه الإدارة هو تهمة التردد والتراجع عن القرارات أو تأجيل اتخاذها إلى الأوقات الخطأ، أو عدم اتخاذها على الإطلاق.

لذلك، سارع الوزير جون كيري إلى تأكيد أن إرسال هذا العدد المحدود من العناصر إلى بلد بات يعج بآلاف المقاتلين من كل أنحاء الأرض، «لا يعني دخول أميركا الحرب الأهلية». وكأن هذه الحرب المشتعلة لا تزال في حاجة إلى إذن من أميركا لتستمر. فالهدف، كما أوضح الناطق باسم البيت الأبيض جوش ارنست، هو دعم قوات المعارضة «المعتدلة» التي أصبحت على بعد 70 كيلومتراً من الرقة، «عاصمة الدولة الإسلامية»، ويجب تعزيز هذه العناصر التي أظهرت أنه يمكن الاعتماد عليها في مواجهة «داعش»، كما قال ارنست.

وفي قرار مشابه للقرار المتعلق بسورية، اتخذت إدارة أوباما قراراً آخر بتشكيل غرفة عمليات مع العراق لتعزيز قدرة الولايات المتحدة، كما قيل، على توجيه هجماتها ضد «داعش» وضرب شبكاتها الإرهابية. وليس مستغرباً ولا مستبعداً أن تكون إيران طرفاً في عمليات من هذا النوع، نتيجة نفوذها المعروف على الأجهزة الأمنية العراقية.

لماذا يأتي القرار الأميركي في هذا الوقت بالذات، فيما تجري محادثات موسعة في فيينا بين الجهات المعنية والمتورطة في الحرب السورية، وبعد أسابيع على التدخل العسكري الروسي لحماية نظام الأسد وإنقاذه من الانهيار، تحت ستار محاربة التنظيمات الإرهابية في سورية؟

المفارقة ومصدر الاستغراب أن الإجابة الأميركية تتجنب الإشارة إلى أن هدف هذه القوات المحدودة العدد هو مواجهة النظام السوري. الحديث هو فقط أن دور هذه العناصر الذي سيبقى «استشارياً» هو مواجهة «داعش» والتنسيق مع فصائل المعارضة التي تقوم بذلك، وخصوصاً مع وحدات «حماية الشعب الكردي» في شمال سورية. فمناطق العمليات التي سترسل هذه القوات إليها أو تلك التي تعتبر أهدافاً للطائرات المقاتلة التي تم إرسالها إلى قاعدة «انجرليك» التركية، هي مناطق مواجهة مباشرة مع «داعش» وليس مع قوات النظام السوري أو الميليشيات التي تقاتل معه.

وفي هذا السياق، جاء إعلان الوحدات التي تطلق على نفسها اسم «قوات سورية الديموقراطية» والتي تضم مقاتلين من العرب والأكراد وتدعمها الولايات المتحدة، عن بدء عملية عسكرية ضد «داعش» في ريف الحسكة الجنوبي.

كل هذا يعني أنه، من الناحية العملية، باتت الأجواء السورية ومناطق العمليات على الأرض مقسمة الآن بين من يحاربون «داعش» من جهة ومن يقاتلون التنظيمات المعارضة الأخرى، ويتولون بالتالي حماية النظام وتعزيز مواقعه. الأميركيون والقوات الكردية في الصف الأول، والروس والإيرانيون وسائر الميليشيات الموالية للنظام في الصف الثاني. ولا خوف من الاصطدام بين الطرفين، مثلما ألمح الوزير الروسي سيرغي لافروف. فمناطق العمليات واضحة للطرفين. ونتيجتها الطبيعية هي تقاسم الجغرافيا السورية سياسياً وعسكرياً، مع ما يعنيه ذلك من تبعات على مستقبل أي حل ممكن لهذه الأزمة.

أليس مثيراً للدهشة أن أوباما، صاحب الإعلان عن «الخط الأحمر» الشهير، هو الرئيس الذي يلتقي الآن مع الروس والإيرانيين على أولوية مواجهة «داعش» في سورية بدلاً من مواجهة نظام بشار الأسد، متجاهلاً ما يصرح به مسؤولون في إدارته من أن الإرهاب الذي يمارسه نظام الأسد بحق السوريين لا يقل عن إرهاب «داعش»، بل إنه السبب المباشر لنمو التطرف وانتشار الإرهاب على الأرض السورية، كما في سائر المنطقة.

إنه التنسيق الخبيث وغير المعلن الذي لخصه الوزير جون كيري بعبارته الشهيرة التي سوف تصلح شعاراً للمرحلة المقبلة: اتفقنا مع روسيا وإيران على عدم الاتفاق على مصير الأسد!