عندما قامت الانتفاضة الليبية في 17 فبراير/شباط كانت مفاجئة ومفتوحة على احتمالات كثيرة، فقد أخذت في بدايتها طابع الانتفاضة العفوية ضد سياسات نظام القذافي التي دامت أكثر من أربعين عاما، ولم تكن -حسب ما يظهر من شواهد- ثمرة جهد مبذول لتنظيم كان يخطط ويدبر ويسيطر على أفعاله ويوجهها نحو هدف وغاية.

هذا أيضا ما ظهر جليا في طبيعة وكيفية ظهور أول قيادة سياسية معلنة، وهي المجلس الوطني الانتقالي، الذي كان ثمرة لقاءات ومقترحات من بعض النخب التي فوجئت بالانتفاضة، وكذلك آلية تشكيل هذا المجلس التي كانت تعتمد على قبول الأعضاء السابقين العضو الجديد، آخذين بعين الاعتبار مقتضيات الواقع الجهوي والمناطقي الليبي.

وهذا يعني أنه لم تكن هناك قيادة مسبقة اتخذت قرار البداية لهذه الانتفاضة، ثم تحولت إلى مؤسسة معلنة متماسكة تدير الصراع مع نظام القذافي، انطلاقا من أطروحات محددة ومتفق عليها كبديل عن النظام السياسي الذي كان يجري الصراع معه.

إذن هذه الانتفاضة رغم اتساعها على مستوى القاعدة، فإنها كانت في واقع الأمر هشة على مستوى القيادة والتنظيم، ولم يكن يجمع بين معظم القيادات الميدانية التي أفرزها زخم الحدث سوى رفض نظام العقيد القذافي وكراهيته.


بعضهم ثار على نظام القذافي لأنه في نظره دكتاتور صادر كل الحريات واحتكر الحياة السياسية، وبعضهم ثار ضد القذافي لأنه يعده طاغوتا وكافرا لا يحكم بما أنزل الله، والبعض منهم يرى فيه منافقا ودجالا يحرف القرآن والسنة ويتجرأ على الأعياد والمناسبات الدينية، بينما غيرهم شارك في هذه الانتفاضة ضد القذافي لأنه في نظرهم همّش قبائل ومدنا وجهات، ويغازل ويلقي بفتاته إلى قبائل ومدن وجهات أخرى.

كان هذا المشهد لبنية ما نسميه قيادات الأمر الواقع التي أفرزتها ضرورات اللحظة، ينبئ باحتمالات كثيرة مفتوحة على المجهول، ومعظمها يدعو إلى القلق وليس إلى الطمأنينة:

الاحتمال الأول هو انتصار نظام القذافي بسبب غياب التنظيم والتنسيق بين قيادات الأمر الواقع المتعددة، مما يؤدي إلى سريان روح الإحباط بين جماهير الانتفاضة التي كانت ما تزال سلمية، ومن ثم ضياع زخمها وتشرذمها، وبالتالي نهايتها السريعة.

الاحتمال الثاني ظهر بعد أن تمت عسكرة الانتفاضة، حيث بدا للبعض أن النظام نجح في جرّ هذه الانتفاضة إلى الميدان الذي يستطيع أن يحقق فيه نصرا مؤزرا وسريعا عن طريق العنف والسلاح والحرب التي يحتكر وسائلها.


أما الاحتمال الثالث الذي كان يخشاه الكثيرون فظهر أيضا إبان مرحلة الحرب واحتدامها، ويتمثل في إمكانية الصدام بين تلك القيادات التي أصبح أتباعها كلهم مسلحون في الجبهات، حيث بدأ يظهر تدريجيا الإعلان عن آرائها وقناعاتها التي بدت متناقضة إلى حد استحالة تعايشها مع آراء وقناعات قوى أخرى بعضها مدني وبعضها مسلح يقاتل إلى جانبهم في الجبهات ضد نظام القذافي.

وقد عزز احتمال نشوب صراع مسلح بين هذه القوى سببان: أولهما أن هذا التناقض لم يكن يجري بين قوى مدنية كل منها يسعى لإقناع فئات المجتمع بأن أطروحاته هي التي تقدم الحلول الأفضل لإشكاليات المجتمع، بل كان يجري بين رجال مسلحين متجاورين في الخنادق والجبهات.

وثاني هذه الأسباب هو وقوع صدامات متفرقة توجت بحادث خطير، وهو مقتل عبد الفتاح يونس رئيس الأركان آنذاك، وهذا الحدث كاد أن ينقل احتمال الاقتتال من حالة التوقع إلى حالة التحقق التي ينفجر فيها الصراع المسلح مبكرا بين هذه القوى، فلا يبقى من تلك الانتفاضة شيء سوى جماعات مسلحة تتقاتل في القرى والمدن، فتلجئ الناس إلى البحث عن منقذ من هذا الجحيم حتى ولو كان القذافي.

كانت تلك بعض الاحتمالات التي كانت تلوح في أفق التوقعات، ورغم قوة الانتفاضة وتمدد زخمها بسرعة إلى مناطق كثيرة في غرب البلاد وشرقها وجنوبها، فإن النجاح في البداية كان يلوح بعيدا وخجولا في آخر قائمة الاحتمالات، غير أن مفارقات الأحداث الكبيرة في التاريخ تشهد بأن الاحتمالات الأقل توقعا هي التي في بعض الأحيان تتحقق وتقلب ما كان متوقعا لمسار الأحداث الكبيرة.


لم يكن تدخل المجتمع الدولي في الصراع احتمالا يمكن التعويل على إمكانية حدوثه، ولم يكن واردا -في أغلب الظن- في ذهن أي من الذين كانوا ينضمون في المدن والقرى بشكل عفوي إلى كتل المنتفضين كتعبير عن رفضه وكرهه نظام القذافي دون التفكير في ردة الفعل التي تنتظره من قبل نظام مسلح وذي بأس كأي نظام عربي عندما يدافع عن غنيمته السياسية، ولكن الإفراط في استخدام القوة المسلحة ضد الانتفاضة التي كانت غير مسلحة في بدايتها دفع الأمور إلى عسكرتها فتطورت الأحداث وقفز احتمال التدخل الدولي إلى مقدمة كل الاحتمالات الأخرى، بل تحقق بأسرع مما كان يتوقع البعض.

ولكن بعد سقوط نظام العقيد القذافي ونهاية الحرب تقاعس المجتمع الدولي عن المساعدة في جمع السلاح، ووضع برامج جادة لاستيعاب المقاتلين العائدين من الجبهات في مجالات أخرى، وإعادة بناء الجيش النظامي ليحل محل المليشيات المسلحة التي كان واضحا أنها ستكون بعد نهاية الحرب أكبر خطر يهدد وجود الدولة، لأن بعضها يستمرئ النفوذ والمال، وبعضها الآخر لا يراها الدولة التي قاتل من أجلها، بل يراها طاغوتا يتوعده بالزوال. 

هذا الإخفاق وفّر الشروط لتحقق أسوأ ما كان في قائمة الاحتمالات منذ أن قامت الانتفاضة، وهو انفجار الصراع بين هذه المليشيات، فوقعت أول مؤسسة سياسية منتخبة، وهي المؤتمر، ضحية هذه المليشيات سواء بسبب دعم بعض القوى المتصارعة داخل هذه المؤسسة لمليشيات اتخذت منها أذرعا في صراعها القائم والمحتمل مع منافسيها، أو بسبب تغول هذه المليشيات التي استحلت مؤسسات الدولة، فارتدى بعضها مسوح الثورة، وأعلن بعضها الآخر رفضه المطلق لأطروحة الدولة المدنية ومؤسساتها الديمقراطية.

كما أصبحت معظم القوى السياسية التي تدعمها واقعة تحت سطوتها ولا تستطيع أن تذهب في أي خيارات تراها هذه المليشيات المتطرفة متعارضة مع أطروحاتها بما في ذلك الحوارات والاتفاقات التي ترعاها الأمم المتحدة من أجل إخراج ليبيا من المستنقع الذي أوقعتها فيه هذه المليشيات التي يعادي متطرفوها أي وجود لمؤسستي الجيش والشرطة، وترفض شرعية البرلمان الذي انتخبه الليبيون، وتفرض المؤتمر الوطني السابق كمؤسسة مناظرة، مما يزيد من أخطار انقسام الوطن وتشظيه.

وقد اتضح من خلال تتبع مسارات الحوار الذي ترعاه الأمم المتحدة والنتائج التي تم التوصل إليها، كذلك ردات فعل الأطراف المتحاورة، بأن ليبيا باتت تنتظرها مرة أخرى ثلاثة احتمالات، ذلك أن هذه الأطراف المتحاورة، ولا سيما المؤتمر الوطني الليبي السابق والبرلمان الليبي، واقعون جميعهم بين ضغوط متطرفي الدين والجهوية.

فالمؤتمر الوطني أصبح يعاني من سيطرة متطرفيه الدينيين وقادة المليشيات التي تسهر على حمايته، وتؤمن له السيطرة على العاصمة، ويلوح بقوتها في وجوه خصومه، ولكن عندما حانت لحظة الاتفاقات السياسية لإنقاذ الوطن من عبث الأشقاء وجد الأعضاء أنفسهم منقسمين؛ فبعضهم يمثلون تيارات دينية متطرفة وقادة مليشيات، والبعض الآخر وجدوا أنفسهم رهينة لأولئك.


أيضا يبدو أن البرلمان الليبي يواجه جناحا جهويا متطرفا، ورغم أنه أقلية ولا يمكن مقارنته بشراسة وهيمنة متطرفي المؤتمر الوطني، فإن صوته عال يثير المشاكل في وجه أية حلول لا تستجيب لوجهة نظره الجهوية غير المعتدلة.

لا شك أن تفاعلات هذه الأطراف مع صيغة الاتفاقات المقترحة من الأمم المتحدة هي التي تضع ليبيا على مفترق هذه الاحتمالات، والتي أهمها:

1- أن ينجح متطرفو المؤتمر في إملاء إرادتهم على الجميع ودفعهم إلى رفض صيغة هذه الاتفاقات والدفع نحو مزيد من التشظي والاحتراب، وهو احتمال مشؤوم بالنسبة لمن يريدون بقاء الوطن، لأنه هو أقصر الطرق إلى نهاية ليبيا كهوية وجغرافيا سياسية.

2- أن ينجح عقلاء المؤتمر ومن يتبعهم في لجم المتطرفين أو عزلهم، وهو أمر صعب، ولكن في حالة حصوله فسيكونون في منتصف طريق البداية نحو إنقاذ الوطن، وسيكون التوصل إلى توافق بشأن الاتفاقات هو الاحتمال الراجح.

3- أن ينجح متطرفو الجناح الجهوي في البرلمان -وهم أقلية ديمقراطيا- في تأليب الإعلام الذي بدوره يؤلب الناس الذين من فرط ضياعهم في دوامة الصراع لم يعد الكثير منهم يرى طريقه بوضوح، ومعنى ذلك وقوع البرلمان تحت ضغوط متطرفيه، وإذا ترافق ذلك مع نجاح متطرفي المؤتمر الوطني، فإن البرلمان قد يرتكب خطأ تاريخيا يقود ليبيا إلى نفس المصير الذي ينتظرها في الاحتمال الأول.

4- أن ينجح البرلمان في تحجيم دور متطرفيه الجهويين، وألا ينساق عقلاؤه خلف حمى خطاب التطرف والتحشيد، وأن يمضي في النظر بهدوء إلى الصيغة المقترحة على ضوء ما هو كائن من الأخطار المحدقة بالوطن وليس على ضوء ما كان ينبغي أن يكون، وفي هذه الحالة فقط قد تظهر بداية طريق تبعد ليبيا عن مفترق الاحتمالات المشؤومة التي تظهر بجلاء لكل من يريد أن ينظر إليها.