ويأتي الأمر منسجما مع حالة التردي السياسي والاقتصادي والأمني التي آلت إليها أوضاع "أم الدنيا"، كل ما فيها يفقد بريقه من الأدب والاجتماع والاقتصاد والأمن والسياسة إلى الفن والإعلام، لا طعم ولا لون حتى في ردود الأفعال التي لم تسجل ما يمكن أن نرصده كرد فعل على الانحدار المدوي لوضع مصر في مواجهة حكم فاسد وفاش يرسم معالم مستقبل بلد بخربشات معاقة على الصعيد الداخلي والخارجي. 

وعندما نقول إن هذا يتماشى مع عصر التدهور والتخلف الذي تشهده سياسة دولة وانكفاؤها باتجاه التشبث بالقمع والإقصاء والقتل، فإن التحديات القادمة التي يواجهها السيسي على صعيد الداخل والخارج ستكون بالغة الحدة، يزداد معها تفاقم المشكلات باستحالة المواءمة بين حل الأزمات وافتعالها، من خلال التركيز على عوامل الكارثة المحدقة بمصر بعنوان واحد "الإرهاب" دون الانقلاب والإقصاء والثورة المضادة، عبر التلويح براية مشوهة وممزقة لإنقاذ مصر وخلط حابل المجتمع بنابل إرهاب الاستبداد.


التطورات المتلاحقة والانتكاسات الخطيرة التي أصابت سياسة الانقلاب قبل اغتيال النائب العام هشام بركاتوبعده وصولا لإعدام 13 عضوا من قيادات الإخوان المسلمينداخل شقة سكنية في حي 6 أكتوبر، تطرح بصورة مباشرة الفشل الذريع لقوى الانقلاب، وفشل الثورة المضادة في تسويق نفسها للعبور بالدولة إلى سكة الأمان.

عكسا لذلك، فالاتجاه الذي تسلكه وصل إلى محطات كارثية بدأت في سيناء ولن تنتهي في الشيخ زويد والصعيد والإسكندرية وباقي مدن المحروسة التي تشهد تأجيجا مستمرا يلعب انقلاب العسكر دورا رئيسيا فيه لجهة العمل على انحطاط قيم المجتمع المصري والتركيز على عامل مكافحة "الإرهاب" وتجاهل ما أفرزه عامل الانقلاب بكل مؤسسات الدولة والمجتمع، إن كان لجهة تضخيم وتسعير "الإخوانوفوبيا" أو لإهمال وتغييب واعتقال وإقصاء الدولة والمجتمع في زنزانة السيسي "المنقذ".

من العوامل التي عجلت اكتمال مقومات الطبيعة المنحطة لسياسة الانقلاب في مصر، هيمنة الشعبوية الإعلامية المتسابقة لإحراز نصر معنوي للسيسي يعزز فيه سباقه الماراثوني "لابتداع" أساليب منجية لأزمات مصر الدولة والسياسة بإجراءات قمعية ووحشية وإقصائية في سيناء ورفح والشيخ زويد، مترافقة مع قمع شديد لكل ميادين الاعتصام الرافضة للانقلاب.

اندفاعة جوقة الانقلاب العسكري، بعد عمليتي مقتل النائب العام ومقتل الجنود المصريين في الشيخ زويد شمالي سيناء، بالهجوم على الإخوان وتصفية بعض قياداتهم، كل ذلك يكتسب بعدا مدويا ودمويا عن جدل العلاقة بين عهد الانقلاب على ثورة 25 يناير مع الرئيس المخلوع الذي تم تكريمه بمعاملته معاملة الرؤساء السابقين مع ما تحمله من امتيازات صفة "الرئيس السابق"، ما عدا جملة التسريبات التي أفصحت بما لا يدع مجالا للشك الدور الذي لعبته قوى الانقلاب مع العهد البائد لشيطنة مرسي وحماس والإخوان وقطر.. إلخ.

فتسمية ميدان رابعة بهشام بركات لن تمحو إرث وأثر الدم المسفوك به، ولن تجبر قلوبا كسرها القتل والقمع والتطرف، ولن تجلب نجاحا لمحاولات السلطات المصرية إثبات ذاتها بتلك الأساليب.

وإن رد أسباب الهجمات الإرهابية في سيناء على الجيش المصري تارة بتورط حماس، وتارة أخرى بمسؤولية قيادات الإخوان التي تقبع خلف القضبان، يباعد بين واقع الحال الذي تعيشه مصر الدولة وبين الشعب المصري، وهو واقع أنتج حالة من الارتباك العميق في خطاب السياسة المصرية.


يعزز قضاء السيسي تقويض دور مصر الدولة من خلال "توطيد وتحصين" مصر ضد دورها الطبيعي المفترض، ومن خلال محاولة إظهار قدرة على حل مشكلات مصر بهذا البعد العميق عن واقع وتراث مصر الدولة والشعب، بسد الطريق في وجهها لإحلال عجز الدولة عن الاستمرار في دورها وتحويلها إلى ساحات للنعرات والعصبيات الطورانية، وتبني خيارات منظمة ومدروسة تبرر تجنيد وسائل الإعلام لحملات الضخ والتشويه لحركة الثورة والمجتمع المصري.

وإذا أضفنا لائحة الاندفاعة القاتلة الصادرة بحق قيادات الإخوان المستهدفة، فإننا نضيف بؤسا وسخرية بانضمام من أعدموا للائحة التصفية هذه، وانكشاف أين وصلت العنجهية والغطرسة لحكم العسكر الهادم لسياج الوجود الحضاري والمشوه لوجه مصر ومستقبل أجيالها.

هذا التباين يخلق مزاجا شعبيا في مصر يرفض تسفيه نضاله ومقاومته للقمع والظلم والقتل، الذي يلتقي مع تسفيه وتهميش الشارع المصري، كل ذلك يضع موقف سلطة الانقلاب في موقع ردود الأفعال المرتبكة عطفا على الغلو في القتل، لا في موقع السياسة التي لا تسمح بها أصلا بنية السلطة الحاكمة في مصر، وبالتأكيد فإن هذه السلطة تبدو الآن في وضع شديد الارتباك، بعد أن لمس المواطن المصري الخداع واللا أخلاقية من سلطات الانقلاب في تعاطيها مع الملفات الاقتصادية والأمنية والسياسية، وافتقادها بذات الوقت الأدوات التي تصوغ بها سياسة جديدة على المستوى الداخلي والخارجي.

ربما يوحي الشارع المصري بمفارقة حزينة، فهو الذي قدم نفسه في ثورة 25 يناير في صورة نموذجية لمحاربة الاستبداد، وهو الذي فشل حتى الآن في تكوين جسم سياسي فاعل لمقاومة الانقلاب وتبعاته، في المقابل ليست خيبة الأمل لنا، ولا نتخلى عن إدراكنا التاريخي لجوهر ودور مصر في بلادنا العربية، ولكنها خيبة الذين اعتبروا عبد الفتاح السيسي منقذا لمصر و"نبيها المخلص"، خيبة من تفكيك عناصر القوة الذاتية لمصر الدولة والسياسة بهذا الانزلاق الخطير نحو حظر مصر عن محيطها العربي الفاعل وحجب السياسة المعبرة فعليا عن هموم وتطلعات الشارع العربي في مصر.

هكذا تكف السياسة المصرية في عهد السيسي عن امتلاك شخصيتها وتضحى كائنا مريضا مفككا مبعثرا، مما يقذفها أكثر فأكثر إلى دوامة الخضوع والانحطاط الذي انطلق منه عهد الانقلاب على الثورة وعلى الشارع المصري متسلحا بغرائز "العظمة" الممزوجة بعواطف قومجية جريحة ومهزومة حضاريا.

وتتضح يوما بعد آخر التبعية والفجوة التي يحدثها نظام السيسي بين سياسته والدور المفترض لدولة مثل مصر، وبينه وبين قوى المجتمع الذي تمرد على ممارسات هي بالأصل مختلة لصالح الاحتلال الإسرائيلي، وثار على سياسة هي بالأصل مرتهنة لأجندة الغرب بصورة مطلقة، فكيف إذا كانت اليوم سياسة نظام السيسي تُحدث هذا التلاشي والاضمحلال لدولة مثل مصر، وتنميطها كنموذج لأنظمة أخرى تعمل على تعزيز القمع والاستبداد، وهو ما سيزيد من حدة المأزق الذي تمر به السياسة العربية التي يتزعم ترويجها انقلاب العسكر بنمط يحكم المنطقة مستقبلا.


يكفي أن نذكّر هنا بأن ما وفرته سلطات الانقلاب في مصر وتجربتها الاستبدادية في القمع والتنكيل وفض ميدان رابعة بمجزرة وملاحقة الصحفيين وتكميم الأفواه وسياسة اقتصادية بائسة، كل ذلك ليس بحاجة لكثير من الذكاء ليعرف المواطن المصري والعربي كم الوقاحة الذي مارسته نخب "الانقلاب" وحجم البلطجة التي أظهرت مصر كمجتمع تتحكم به دورة عنف دموي لتحقيق برنامج نهب اقتصادي وتزوير سياسي خطه المخلوع مبارك ويستكمله السيسي ومن يتحالف معه.

فليست قضية فض ميدان رابعة والانقلاب على الشرعية فقط هي ما يريد هذا النظام إبعادها عنه بالتسمية الجديدة، بل التزوير المفضوح لدور مصر الدولة والتاريخ ليس فقط بالسطو على ذاكرة المصريين القريبة وتبديل تسميات الميادين لإخفاء الجرائم، بل تطويع شعب حسبما تشتهيه سفينة نخب الانقلاب وخياراتها المستقبلية.

أمام الانتقادات التي وجهتها منظمات حقوق الإنسان العربية والدولية يبدو هذا النظام كمن يريد أن يحول نفسه إلى بطل بعين شعبه الذي يعرف مدى فساده، لكنها القنبلة القادمة قبل اشتعالها أيضا، فلم يصدق هؤلاء أن مصر التي يجري استهدافها بأمنها القومي، عبر الارتهان الكلي لمصالح أميركا وإسرائيل والغرب، ووضع النظام تارة بمواجهة حصار غزة والضغط على الفلسطينيين، وتارة أخرى التحول إلى لاعب سلبي بالشؤون العربية وصولا إلى المواجهة المباشرة مع الشارع المصري مع تسعير الهجمة على كل من يرفض الانقلاب.

يبقى القول إن بوصلة الاستشعار عن بعد لسلطة الانقلاب في مصر لم تخطئ في تحديد أبعاد نجاح ثورة 25 يناير ووصول الرئيس محمد مرسي للحكم، فكان عليها البحث والإعداد والتزوير للانقضاض على التجربة الديمقراطية لأن انشطار هذه التجربة وضعف وتنسيق قوى "المعارضة" التي انخرطت في الثورة، فضح أجنحة كانت تعمل على دعم الانقلاب من خلال التطبيل والتهويل لنزاهة القضاء المصري الذي فضحته نعومته بمحاكمة أركان نظام مبارك.

الانفجار قادم بوجه النظام المصري، وإن بدا مؤجلا الآن، لكن ستكون له انعكاسات خطيرة على مصر وعلى كل الحالة العربية.
نزار السهلي