تعرضت تونس، مرة أخرى، لعملية إرهابية هي الأكثر عنفا ودموية في تاريخها الحديث.. إنه صيف الدم في هذا البلد الشقيق، الذي يُغالب المصاعب والتحديات بإرادة المؤمن من أجل تعزيز اختياره الديمقراطي، وتوطيد مؤسساته السياسية. فبطريقة هادئة يتمكن شاب، بارع في رقص «البريك دانس»، لم يتجاوز عمره الثلاثة والعشرين عاما، من اقتحام فندق فخم جاثم على شواطئ مدينة سوسة الجميلة، متأبطاً سلاحه، وكأنه في رحلة قنص، فيضع حدا لحياة ثمان وثلاثين سائحا، لا ذنب لهم سوى أنهم أحبوا الحياة، وقصدوا بلدا معروفا بتقاليده السياحية، ورحابة صدره، وطيبوبة أخلاق ناسه..إنه حقا منظر سريالي، لا يُكلم القلوب ويُحزن الأفئدة عما أصاب هذا البلد الموسوم بوسطيته وتسامحه وحسب، بل يدفع دفعا إلى التساؤل عن سر نجاة منفذ الجريمة «سيف الدين رزقي»، من رقابة أعين الأمن، ومن يدخل في حكمهم؟ ومن أين وقع تزويده بالأسلحة التي مكّنته من تنفيذ عمليته الإرهابية؟
يُعرف عن تونس أنه بلد الانفتاح، والوسطية، والتسامح. كما يُسجل لأبنائه دفاعهم اللامتناهي عن ريادتهم في التعاطي مع فكرة الإصلاح، والتغيير التدريجي، والبناء بالحوار والتوافق. والحقيقة أن من اطلع على تاريخ تونس الحديث والمعاصر، لا يجد بدًّا من الاعتراف لمكونات مجتمعه بهذه القيم، وانبثاثها في الثقافة الجمعية التونسية. لكن، بالمقابل، يَحار المرء، وهو يلاحظ تصاعد موجات العنف في ربوع هذه البلاد، عن إيجاد تفسيرات مقنعة لظاهرة التطرف الديني، وتنامي أعداد المنخرطين من التونسيين في صفوف التنظيمات التكفيرية، إذ يُقدر المسؤولون الأمنيون التونسيون عدد الذين لقوا حتفهم في المعارك الجارية في سوريا بـ 600 عنصر، فيما عاد قرابة 3000 إلى بلدهم، وبقي 500 مجند في القتال في الربوع السورية، واللافت للانتباه، بحسب ما روت أكثر القصاصات الإخبارية، أن هؤلاء المقاتلين الوافدين من تونس أكثر الجنسيات قساوة على السكان المحليين المجبرين على البقاء في ديارهم. لذلك، يظل التساؤل مُحيّراً لأي مصدر يعود الإقبال المتزايد للتونسين على الانضمام إلى التنظيمات التكفيرية؟ ومن أين يستمدون شراستهم وقساوتهم في ميادين القتال ظلما؟
الواقع أن انخراط تونسيين في التنظيمات التكفيرية المتطرفة ليس حديث الساعة، بل يعود إلى سنوات خلت، لنتذكر أن زعيم تنظيم «أنصار الشريعة»، المُعد على رأس المطلوبين دوليا، «سيف الله بن حسين»، الملقب بأبي عياض، كان يدير معسكرا لتدريب المغاربيين في أفغانستان قبل اجتياحها من قبل الأمرييكيين في العام 2001. وأن الذي اغتال الجنرال «أحمد شاه مسعود»، المناهض لطالبان، كانا انتحاريين تونسيين، انتحلا صفة صحافيين، بعدما تم تجنيدهما في بلجيكا. ففي الإجمال لم يتمكن التكفيريون من إرساء مواقع قدم لهم في تونس بسبب يقظة وقساوة النظام التونسي على عهد الرئيس بنعلي، ولم يشرعوا في التغلغل في بلادهم إلى مع الخمس سنوات الأخيرة التي سبقت سقوط النظام، وقد سمحت لهم ظروف التغيير الجديد في تونس، وانفراط الأمن في ليبيا بعد سقوط النظام بالتنامي السريع، والتطلع لأن يصبحوا فاعلين في الميدان في تونس.. وقد ساعدهم بقوة العفو الذي شملهم سنة 2011، من قبل حكومة «محمد الغنوشي»، حيث أُفرغت السجون من كل أصناف الأصوليين المتطرفين ومن يناصرهم.
لا شك أن الوضع الانتقالي المتموج داخل تونس والمضطرب في دول الجوار (ليبيا تحديدا) شكل فرصة سانحة للتنظيمات التكفيرية بالظهور مجددا، وساعدها على امتطاء القوة والعنف، كما حصل مؤخرا في سوسة. كما أن انشغال الدولة ومؤسساتها الأمنية بترتيب الوضع الانتقالي، فتح شهية التنظيمات المتطرفة للسيطرة على المساجد واستغلالها للترويج لمشروعها «الجهادي» وتجنيد فئات من الشباب، ضاعت في زحمة تعقد الأوضاع الاجتماعية، وتشقق الهوية، وعدم وضوح بديل أو بدائل التغيير نحو الأفضل..والأخطر في الأمر أن يتعطّل مشروع الانتقال في تونس بفعل هذه الضربات وغيرها، وتتعمق الحرب الجارية في ليبيا.. إن كل تأخر في استمرار هكذا أوضاع، سيمكن التنظيمات التكفيرية من الديمومة، وتوسيع دائرة المجندين والمناصرين.


امحمد المالكي