ظرف سياسي عابر جعل من حزب مغربي ،بريع ديني مُتِّع به – ذات صولات لليسار- ليكون ذُخرا للدولة زمن الحاجة ؛الحزب الأقرب إلى القاعدة العريضة من الهيئة المغربية الناخبة ؛وهي هيئة مسلمة عقيدة ودستورا؛كما أنها الهيئة التي كانت ،ولاتزال،حاملة لكل طموح حركة 20 فبراير؛كما تماهت مع ربيع عربي متوثب، لم يكن يشي بمآلاته المأساوية الحالية. أقول الأقرب لأوحي بالأبعد الذي ضم وقتهاالأحزاب الوطنية التي أنهكها الحكم ، في ظل مؤسسة ملكية قوية،وحرمها من أغلب قاعدتها الناخبة؛دون أن يكون تدينها موضع شك أو سؤال من أحد.البارحة كما اليوم.

لقد تضافرت كل الشروط ليحسم حزب العدالة والتنمية الانتخابات لصالحه؛وهو الحزب الذي كان مهددا بالحل عقب تفجيرات الدار البيضاء؛لو انساقت المؤسسة الملكية لزلل المطلب اليساري :

أحزاب تقليدية منهكة .

حزب الأصالة والمعاصرة الذي ولد واقفا فوق منصة السياسة المغربية؛مما عرضه لعواصف النسخة المغربية من الربيع العربي.

تحرك شارع ألجأه الخطاب الحزبي، المنكفئ والممل، إلى الارتماء في أحضان تجربة دينية سياسية جديدة.

لغة استقطاب شعبوية وتحشيدية، أنزلت السياسة المغربية من برجها البارد، إلى سخونة شارع منتصب للإسقاط؛بما في ذلك إسقاط ضوابط الكلام .لغة لا أحد أفصح فيها وبها - إلى الآن- من السيد بنكيران،الأمين العام للحزب.

تدين شعبي فطري ،إن لم يكن غُفلا؛ لم يجرب بعد أن يكون مستغلا سياسيا.

نظام لم يجد بين يديه الكثير من الاختيارات ،والرجال، ليحتوي حركة الشارع.

مقاطعة انتخابية اشتغلت لصالح العرض الديني السياسي الأوفر حيوية وحظا.

تكليف بنكيران بتشكيل الحكومة،وقد تم في ميدلت وليس في العاصمة،مما له دلالات قُربية أيضا ،وليس تحجيمية فقط؛كان بمثابة تصويت ملكي ديمقراطي، على التصويت الديني –ولو المحدود- الذي مُتع به حزب ،أغلب برنامجه وعود غير مؤسسة اقتصاديا، وثقت فيها الطبقة الشعبية،حد التنزيه غير المؤسس بدوره سوى على حمولة دينية لم يجربها المغرب؛ممارِسة للشأن العام.

من زرابي الريع الى حُصُر السياسة:

لم يمض كثير من الوقت على الحزب ،شبه الحاكم،حتى أدرك أن الريع الذي مُتع به – لاعتبارات فرضها المحيط الإقليمي والدولي- أصبح تهمة تلاحقه في الداخل كما في الخارج؛وقد بذل الأستاذ بنكيران – ولا يزال – كل جهوده ليثبت للمؤسسة الملكية أنه أهل للثقة التي وُضعت فيه،رغم كونه غير متميز سياسيا؛وقد بدا له أن التنازل عن كثير من اختصاصاته ،بما فيها تنزيل الدستور الجديد ،والوقوف في وجه انفلاتات الخطاب الديني لصقور حزبه ،سيحقق مبتغاه هذا؛حتى يفوت على خصومه السياسيين الأقوياء ،والذين انتَزَع منهم نصرا محققا ؛إن لم يكن حكومة كانت قاب قوسين من التشكل ،فرصة إسقاط حكومته ،وقتل تجربة الإسلام السياسي المغربي في المهد.

ومن هنا فان أغلب أداء السيد بنكيران – المفترض أن يكون حكوميا -عبارة عن مرافعات حزبية متواصلة قتلت فيه رئيس الحكومة الذي ينتظر منه جميع المواطنين أداءا تدبيريا ميدانيا ،ملموسا وليس موصوفا فقط.

ومن هنا ضجر المعارضة لأنها لاتجد أمامها رئيسا تعارضه ،وفق الأصول المرعية مغربيا ،في إدارة الشأن العام تشريعيا وتنفيذيا ؛وإنما تجد أمينا عاما لحزب ،يستعمل جميع أسلحة التدافع السياسي الحزبي ،حتى أحطها .

وعليه فمدار الحياة السياسية المغربية اليوم ،على مستوى الحكومة والبرلمان،هو هذا الريع الديني ، الذي يظهر كحمل العذراء ؛يزداد ظهورا،مع توالي الأسابيع، رغم كل أساليب الإخفاء.

تصر المعارضة على سحب كل الزرابي الحمراء ،التي دعت الضرورة الظرفية إلى بسطها للحزب ألأغلبي ،ليصل إلى الحكم ،حتى لا تبقى تحت أقدامه غير حصر السياسة،بكل نتوءاتها ووخزها.

كل الأحزاب المغربية مسلمة ،ولاترى داعيا لإشهار إسلامها سياسيا في بلد يؤذن فيه الجميع؛فلماذا يكون عليها أن تعترف بنصر انتخابي لايرتدي سوى عباءة الدين إياه؟

نزال انتخابي بقبور مفتوحة:

يتأسس هذا النزال ،مرة أخرى، على الريع الديني إياه؛بفارق كونه أدى في الانتخابات السابقة دور المعراج الذي ارتقى بالبلاد كلها صوب ما يعرف بالاستثناء المغربي؛ولا بأس أن يكون،ظاهريا فقط، على يد حزب بعينه.

أما اليوم فان هذا الريع يلعب دور سلم الإنزال ؛ليس من الاستثناء الذي تشتغل على تثبيته –خارج تقلبات السياسة- المؤسسة الملكية ؛وإنما من قمم المحاباة ،حتى تتساوى حظوظ جميع الأحزاب في السهل المنبسط.

عملية الانزال لايمكن أن تتم على طريقة الولادة القيصرية السريعة ؛كخلاص من مخاض عسير ،بل يتم نظمها كسمفونية تصهر نوتات، وسلالم موسيقية متعددة، في أداء واحد يشنف الآذان:

-اختلال بنية الشروط التي صنعت النصر الانتخابي للحزب شبه الحاكم؛وبصفة خاصة شرط الربيع العربي الذي تحول عربيا ،وحتى مغربيا –من بؤس مآلاته- الى ذكرى شعبية سيئة.كيف يقبل العقل العربي أن تتشتت شعوب خارج أوطانها ؛لتحل محلها كائنات أجنبية مدمرة ،بمسمى الجهاد؟ كيف يتشظى الدكتاتور العربي – ميتا،فارا،معزولا- الى كائنات متعددة، لاتخرج عن مدرسته في النهب، التسلط ،والازدراء؟

كيف يقبل العقل المغربي السياسي أن يُحمل حزب الى سدة الحكم ،بضغط من هذا الربيع،وبريع ديني من حق الجميع ؛وليس بقوة برنامج انتخابي توافقي و صادق . برنامج مؤسس وهادف اقتصاديا وتنمويا؛وبطاقم وزاري مؤهل لقيادة السفينة في ظروف إقليمية ودولية في غاية الصعوبة؟إن التعديلات الوزارية المتتالية ،تضاف إليها الانسحابات الوزارية- السياسية وليس العاطفية-يؤكد على ضبابية الرؤية الحكومية، واضطراب الإستراتيجية .

- تقهقر الحزب شبه الحاكم،بدوره، الى لائحة الأحزاب المنهكة،حتى وهو في منتصف ولايته فقط.

- وصول خطاب المعارضة،بفضل الاشتغال الشعبوي التحشيدي،خصوصا لحزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي ،إلى القاعدة الانتخابية العريضة التي آثرَت ،في الانتخابات السابقة،المغامرة السياسية ،بدعم حزب أحست أنه الأقرب الى همومها وانشغالاتها؛وبصفة خاصة تدينها.

-تغلغل حزب الأصالة والمعاصرة في البنية القروية القائمة على منظومة الأعيان والولاءات،وليس على الفهم السياسي الصحيح ،والطموح التنموي ؛خصوصا والعام خصيب.

- مؤسسة ملكية قوية ،بسجل من الانجازات الملموسة ،والمثمنة شعبيا ؛ ترابيا ،داخليا وخارجيا. انجازات تجعل منها حصن نفسها ،وتجعل من السلطتين التشريعية والتنفيذية ملحقتين تابعتين لم ترقيا بعد الى كل أدوارهما الدستورية.

إن اختلال الشروط الانتخابية السابقة ،أو تآكلها،يفسح المجال لظهور منظومة شروط جديدة،ستحسم في المسار المقبل للبلاد ؛المسار الذي سيقطع لا محالة مع "الحكومة التوافقية" الحالية، وهي ريعية كما أسلفت؛كما قطع سابقا مع حكومة عبد الرحمن اليوسفي ،وقد كانت توافقية سياسية.

قاذفات انتخابية من عيار ثقيل:

عيار قادر على اختراق الخرسانة الدينية و القيمية المسلحة، التي احتمى بها حزب العدالة والتنمية ،ليسقط خصوما سياسيين ،ولو بحجر ؛ماداموا بظهور ورؤوس مكشوفة.

إن إفراط الحزب شبه الحاكم في النظم الشعري الديني، الأخلاقي ،حَوَّل كل العرين الانتخابي الشعبي الى شعراء ونقاد وغاوين.لم يكن واردا أن يفهم المواطنون ،بسهولة،كيف تحول هذا النَّظم كله الى مجرد مديح رئاسي للسلطان،لم يطالب به أحد ؛لأن سلطان الوقت في غنى عنه. ولم يكن واردا أن تسكت المعارضة عن افتقاد رئيس الحكومة ،ومواجهة مجرد لسان مفوه ،بلغتين:لغة الانبطاح التام لكل ذي باع ونفوذ؛ولغة الحطيئة التي ألقى بها عمر بن الخطاب ،ذات هجاء، في بئر بالمدينة.

لا يمكن أن تصل القذائف الانتخابية الى تلافيف الأدمغة الشعبية التي راهنت على خطاب سياسي متدين ،تراه اليوم يشتغل علمانيا- وهي لا تفهم أن السياسة بنت العلمانية ،وأن الدين لا سياسة له إلا ادعاءا- إلا إذا كانت من عيار "جينيفر لوبيز" والثنائي "فيمن" ،وكل السوابق و اللواحق القادمة.

لا داعي أن نبحث في من يوجه اللحم الراقص ،الغض والشهي – بشهادة مائة وستين الف متفرج مباشر،وملايين خلف الشاشات - صوب الاشتغال السياسي، على مستوى الطبقات الشعبية التي اشتهت كل شيء حتى مات فيها الاشتهاء. لا داعي لتفاصيل يسكن فيها الشيطان؛ مادام رئيس الحكومة نفسه أكد ويؤكد أنه عرضة للعفاريت والتماسيح في كل خطوة يخطوها؛حتى خنوعا متنازلا.وحينما يُطالَب بالكشف والفضح يسكت كالخطيبة الرزان، الراضية.

وفوق الجبين ،بإرادة واختيار،قصيدة "عفا الله عما سلف" التي يبحث عنها الناس في كل الديوان الأخلاقي والحقوقي فلا يجدونها.

مضت "جنيفر" كغزال نجا من كل صياد، ولم تترك وراءها غير الآهات.لكن آهات من؟ مغاربة حي السويسي ، المطالبين بالمزيد؛أم مغاربة الأحياء السفلى الذين لايفهمون ماذا يحصل ؛ولماذا كل هذا الرقص المستدبر؟

وستتوالى القذائف السياسية حتى لا تُبقي ريعا بيد أحد إلا وفككته وفضحته ،لتتساوى الأحزاب كأسنان المشط.

 

بقلم: رمضان مصباح الإدريسي