في أواخر مارس من سنة 2013، جمعتني المصادفات مع  الصحافي الجزائري السيد سعد بوعقبة على مائدة غداء ببغداد  صحبة الصحافية بديعة  الراضي عن جريدة الاتحاد الاشتراكي  وثلة من الإخوة الجزائريين بدا الرجل ودودا، يُبين عن دماثة خلق، ويَشِعُّ منه الذكاء، ويبدر من نظره الثاقب شيء من دهاء.

يحمل الرجل تجربة طويلة، و ينضح بمعرفة عميقة، ويشفع ذلك بجميل الأحدوثة. كنت سألته عن  منبره الإعلامي، فحدثني عن تجربته بصفته مديرا لجريدة "الشعب"، وتشاجن الحديث عن المرحوم محمد باهي الذي اشتغل في ذات  الجريدة، وساهم في إرساء بنيانها، ثم انبرى السيد بوعقبة محدثا عن تجربة فريدة لا أرى ضيرا في إشاعتها، ولو أن المجالس أمانات، لأنها لا تزري بالرجل ولا تمسه في شيء قد يؤذيه أو يُحرجه ولا تُخلُّ بأخلاقيات المجالس.

كان مما قال والحديث عن المرحوم الحسن الثاني، إنه من أذكى قيادات العالم العربي، إن لم يكن من أذكى قيادات العالم. سألته  علام يستند في حكمه، فاسترسل السيد سعد بوعقبة محدثا عن قصة كان هو محورَها، والحسن الثاني قطبها، وكان ذلك وقد احتدم النزاع بين البلدين بعد اندلاع قضية الصحراء إبّان المرحوم الهواري بومدين، وقام الصحافي المصري الشهير حسنين هيكل بمساعي وساطة، واستقبله الملك الحسن الثاني بفاس واستضافه لعشاء، ثم طار هيكل إلى الجزائر لغرضين، استكمال أعمال الوساطة، وتسجيل حوارات مطولة مع الهواري بومدين لم يكتب لها أن تُنشر قط. وقد عُهد إلى صاحبنا سعد هذا أن يرافقه، وسأله وهو يأخذه إلى جناحه بفندق جورج 5، عن زيارته إلى المغرب، فرد حسنين هيكل على سبيل الدعابة أن الملك قدم له "خروف مشوي رجعي"..كانت مادة كافية ليكتب عنها سعد بوعقبة.. وكاد سعد بوعقبة أن ينسى الحادث إلى أن أثاره الملك الراحل في مذكراته  "ذاكرة ملك"  حين حديثه عن حسنين هيكل الذي لم يُقدر مستلزمات الضيافة ولا مقتضيات الوساطة  لما أسرّه للصحافة الجزائرية. ولم ير هيكل بدا من أن يدخل على الخط، في مقال طويل، بعنوان "ذاكرة صحافي"، ويُقر بما نشرته الصحافة الجزائرية، أو ما كتبه بوعقبة، و يُعقّب على ذلك بأنه فعلا تحدث إلى صحافي مبتديء (كذا)، ولم يكن يقدر أنه سيستغل الحديث العابر. مصدر إعجاب بوعقبة هو أن الملك كان مطلعا على ما كان ُينشر في الجزائر، على مختلف المستويات، وأنه لم يعزب عن ذاكرته ذلك ولو بعد توالي السنين، وذلك غيض من فيض، فيما يُشتَمّ من تحليل السيد بوعقبة.

تذكرت ذلك وأنا أقرأ حديثا للسيد سعد بوعقبة عن المغرب والمغاربة حيث شبّهنا ب"طيابات الحمام". استوقفني حكمه وهو المطلع الحصيف. وهو يعرف من دون شك، أننا أخذنا أشياء كثيرة من إخواننا الجزائريين، ومنها "طيابات الحمام"، بقضها وقضيضها،  ذلك أن الحمامات بالشكل المعهود بين البلدين، تقليد تركي، أخذناه عن إخواننا  الجزائريين مثلما أخذنا عنهم المقروط، والتكتوكاة والبلا يز و بو رابح ( وهو نوع من الدثار) والمطرق وغناء الغرناطي الشجي، ولباس حرائر تطوان في الأعراس، وهلم جرا. فهل تهون مهنة "الطيابات" عند سعد ؟  وهي – لعَمْري - مهنة ككل المهن، ومن "الطيابات" نساء فاضلات، قانتات، حافظات للعهد، ومنهن من هن دون ذلك، ومنهن من هن خلاف ذلك.. كن طرائق قِدَدا.

والسيد سعد بوعقبة رجل مفعم بالإيمان، مشرب بالتقوى، ويعرف الحديث الشريف، "المؤمن مرآة أخيه". فهل يريدنا مرآة له ولتحيته، نعكسها أنصع ما تكون الصورة وأبهاها ؟

لعلي أن أقول للسيد بوعقبة ولغيره ممن دفعوه إلى الجهر بالسوء ، ما تعلمته في المدرسة أنا و أترابي، من نصوص تشيد بالأخوة المغربية الجزائرية. استحضرت ذاكرتي  نصا حول مسجد كيشاوا كنا درسناه في الثانوية، و قد كان مسجدا  حُوّل إلى كنيسة في عهد الاستعمار، ثم عاد مسجدا مع الجزائر الحرة، وعن مقاطع كنا نقرؤها بل نحفظها من "شهاب" ابن بادس و"بصائره"،  ولا أزال أذكر نصا للبشير الإبراهيمي  عن 8 ماي التي تحيل إلى مجزرة سطيف. و تذكرت دروس المرحوم الحاج باحنيني، وكان أديبا نِحْريرا ورجل دولة قديرا، درس بالجزائر في الأربعينات، وكان من يعهد له الحسن الثاني بالمهمات الصعبة إلى الجزائر. أحبها و أحب أهلها، وتأثر أسلوب البشير الإبراهيمي في الكتابة، وكان له في المرحوم الفقيه لمعمري الزواوي أسوة، وكان المرحوم بومدين يستمع إلى باحنيني ويقدره حق قدره.  ولست أفشي سرا إذ أقول إن الحاج امحمد باحنيني اختار نصا شعريا للشريف  الرضي، حفظناه على أرائك المدرسة، و تلاه الأمير مولاي رشيد وسنه لا تربو على العشرة سنوات، أمام حضرة المرحوم الحسن الثاني  في حفل توزيع الجوائز سنة  1980 أذيع في التلفزيون، يحمل رسالة، وتحية غير تحية السي سعد :

                   فلا  باسطا بالسوء إن ساءني يدا    ولا فاغرا بالذم إن رابني فماً

هي ذي أخلاقنا، يا سعد.