منذ أن طُـويَـت صفحة حُـكم بن علي، حتى فُـتِـح في المقابل ملف محاسبة الذين تورّطوا في عهده ونظرا لِـما يُـمكن أن تنجَـرّ عن ذلك من تداعيات على أكثر من صعيد، طالب البعض باعتماد آليات العدالة الانتقالية وبالرغم من مرور أكثر من سنة على ثورة 14 يناير، فإن هذه المسألة لا تزال مطروحة برمَّـتها وتثير جدلا واسعا في مختلف الأوساط، وفي مقدِّمتها عائلات الشهداء والجرحى.

 

من المحاسبة إلى التحذير

اتَّـجهت نية البعض في البداية، نحو محاسبة كل الذين عملوا في صفوف النظام السابق أو دعَـموه. لكن، نظرا للحجْـم الضَّـخم للذين انتَـسبوا لحزب التجمّـع الدستوري الديمقراطي الذي أسَّـسه بن علي على أنقاض الحزب الإشتراكي الدستوري والذين تجاوزوا مليونيْ عُـضو، حسبما كانت تدّعيه الجِهات الرسمية، فقد تعدّدت الأصوات المحذّرة من التورّط في النموذج العراقي، حيث تم اختيار أسلوب اجتثاث البعثيين، وهو ما يقتضي عدم التّعميم وحشْـر الجميع في سلّة واحدة وعلى هذا الأساس، عندما ناقشت اللجنة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والبناء الديمقراطي (اشتغلت من مارس إلى أكتوبر 2011) قانون انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ثار جدل وطني حول ضبْـط هوية الذين يتِـم حِـرمانهم من حقّ الترشح. وقد حصل في هذا الشأن، خلاف بين اللجنة والوزير الأول السابق الباجي قايد السّـبسي، تَـمّ بعده التوصّل إلى حل وسط.

 

لِـجان تقصي الحقائق

في خط موازٍ، تم تشكيل لجنتيْـن: الأولى، تخصصت في تقصّي الحقائق حول الرّشوة والفساد، في حين كُـلِّـفت الثانية بتقصّـي الحقائق عن الإنتهاكات والتّجاوزات، التي تمّـت خلال الثورة وبعدها. ويُـفترض أن توفِّـر اللّجنتان أرضيةً من شأنِها أن تساعِـد على تحديد المسؤوليات. وإذ قدّمت اللجنة الأولى تقريرا أولِـيا عن أعمالها، فإن اللجنة الثانية تستعِد لإنجاز تقريرها خلال الأسابيع القليلة القادمة من جهة أخرى، بادَر عديد المحامين بتقديم قضايا ضدّ عددٍ ممّـن تحمّـلوا مسؤوليات مُـختلفة في حكومات سابقة في عهد بن علي، حيث تمّ إيقاف بعضهم ضِـمن سلسلة من المحاكمات وصدرت أحكام مختلفة ضدّهم، سواء غيابيا مثل الرئيس السابق، الذي أُدِين في كل القضايا التي فتحت في شأنه، أو بصفة حضورية، حيث تقبَـع مجموعة منهم بالسجن، في حين لا يزال عديد الوزراء والمستشارين المقرّبين من بن علي بثكَـنة بوشوشة العسكرية، ينتظرون الإحالة أو الإفراج.

 

انتقادات وغضب

ونظرا للإنتقادات الشديدة التي وُجِّهت إلى مؤسسة القضاء المدني والشكوك المستمرّة حول نزاهة عديد القُـضاة، فقد قرّرت حكومة الباجي قايد السّبسي إحالة جميع الملفّات المتعلِّقة بالمسؤولين السابقين، بمَن في ذلك عناصر الشرطة المتَّهمين بإطلاق النار على المواطنين أو الذين أمَـروا بذلك، إلى القضاء العسكري، الذي تمّ تعزيز صلاحياته لكن بعد ستّة جلسات للنّظر في قضية شهداء القصرين وتالة والقيروان والكاف وبسبب تأجيل رئيس المحكمة الجلسة إلى الأسبوع الأول من شهر مارس، دون الشروع في الإستماع للمتّهمين والشهود، قرّر المحامون الإنسِحاب، وهو ما أثار غضَب أسَـر الشهداء، الذين قرّروا فجأة التوجّه نحو الجزائر، طلبا للُّجوء واحتجاجا على ما وصفوه بـ "المسرحية"، قائلين بأن "البلد الذي لم يُـنصِـفهم، لا يستطيعون البقاء فيه" رغم كل ذلك، تصاعدت الضغوط والإحتجاجات، ممّا جعل الحكومة الائتلافية، التي تشكَّـلت بعد الإنتخابات، تضع هذا الملف من بين أولوِياتها وتُـنشِـئ للغرض وزارة هي الأولى من نوعها، أطلقت عليها اسم وزارة حقوق الإنسان والعدالة الإنتقالية.

 

العدالة الانتقالية.. هل ستكون كافية؟

لكن ما المقصود بالعدالة الإنتقالية؟ وما هي الآليات التي ستعتمد لتجسيدها على أرض الواقع؟ وهل ستكون كافية لطيِّ صفحة الماضي وجعْـل العائلات المكلومة تقنع بأحكامها وقراراتها؟
 لقد تعدّدت الندوات والورشات، التي شارك فيها عشرات الخُبراء، الذين تمّت دعوتهم من مختلف دول العالم، بهدف شرْح هذه المسألة التي تُـطرح لأول مرّة في تاريخ تونس في البداية، عارضها كثير من القُـضاة والمحامين، قبل أن يتِـم القبول بها تدريجيا، ورأوا فيها مسّـاً من دوْر القضاء والتِـفافا عليه، وذلك بالرغم من وجود قرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة حول العدالة الانتقالية لعام 2006 والشرعية الدولية لحقوق الإنسان ونظام محكمة روما لعام 1998، الذي دخل حيِّـز التنفيذ سنة 2002.
 
لكن إلى حد الآن، لم تتبلْـور العدالة الانتقالية في صيغة قانونية وتوضع لها آليات واضحة. وبالرغم من أسبَـقِـية الثورة التونسية وقلة عدد ضحاياها، فإن ليبيا تمكّـنت خلال الأيام الأخيرة من إصدار قانون خاصّ بالعدالة الانتقالية. في حين أن الوزارة المعنِـية المكلَّـفة بذلك في تونس، لا تزال تتحسّـس الطريق وتشارك في النّـدوات والورشات، لاكتساب المعرِفة الضرورية حوْل هذه المسألة الحسّاسة.

 

"لا عدالة انتقالية قبل إصلاح القضاء والأمن والإعلام"

وفي هذا السياق، تساءل مؤخّـرا السيد سمير ديلو، وزير حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية كيف يُـمكن تأسيس عدالة انتقالية ضِـمن السياق التونسي؟ وأكَّـد على أن التجارب الدولية في هذا المجال عديدة، لكن تونس "لا يمكن أن تستنسِـخ تجربة المغرب أو جنوب إفريقيا أو الشيلي، إذ لكلّ بلد خصوصيته"
ومن وجهة نظره فإنه "من غير المُجْـدي أن يفتتح مسار العدالة الانتقالية مباشرة بعد الثورة، لأنه لابد من فترة تلتئِـم فيها الجروح"، مضيفا لهذا الشرط، شروطا أخرى، حيث يعتقد بأنه "لا عدالة انتقالية قبل إصلاح القضاء والأمن والإعلام". مكتفيا بالوعْـد أن الحكومة ستُـواصل مُـشاوراتها مع بقية الأطراف حول هذه المسألة، نظرا لكونها "تسوية مجتمع، وليست تسوية حكومة أو أحزاب"، وهذا يعني أن الإئتلاف الحاكم (الذي يضم في صفوفة حزب حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات) لم يتوصّـل إلى حد الآن إلى بلورة رُؤية عملية لتجسيد هذا المطلب، الذي طُـرِح بعد أسابيع قليلة من هروب بن علي.

 

الإقتناع الجماعي لطي صفحة الماضي!

يعتمد مسار العدالة الانتقالية على جُـملة من الخطوات المترابطة. أولها، محاسبة الذين ارتكبوا جرائم وانتهاكات خطيرة لحقوق المواطنين خلال النزاعات المسلحة أو حقب الإستبداد السياسي، وهي مهمة يتولاّها القَـضاء. وتتزامَـن تلك الخُـطوة مع تشكيل ما يسمّـى بلجان الحقيقة، التي تقوم بجمع كل المعلومات والشهادات عن تلك المراحل السياسية السوداء التي حصلت خلالها تلك الإنتهاكات، وهذه المهمة التي يقوم بها المجتمع المدني، تعتبر ضرورية وتتجاوز مجرّد جمع المعلومات، وإنما تكشف الأسباب العميقة والآليات التي اعتُمدت لممارسة ذلك الحجم من التنكيل والإستبداد  بعد ذلك، يقع العمل على توفير حدٍّ أدنى من الإقتِناع الجماعي بضرورة طيّ صفحة الماضي، وهو ما يقتضي تنظيم جلسات مصارَحة، يعترف خلالها الجلاّدون والمسؤولون عن تلك الإنتهاكات، ممّا يساعد على بناء مصالحة جماعية ووضع آليات للحيْـلولة دون تِـكرار المأساة.

 

مرحلة المحاسبة والبحث عن الحقيقة

في اللحظة الراهنة، لا زال التونسيون في المرحلة الأولى الخاصة بالمحاسبة والبحث عن الحقيقة، لكنها تتَّـسم بالتعثُّـر، ممّا يُـفسِّـر حالة التوتر المستمرّة، خاصة لدى أسَـر الضحايا. ولعل المجال الوحيد الذي قد يقع القبول به، يقتصر على المجال المالي فهناك اليوم مئات من رجال الأعمال المتّهمين بالتورّط في أعمال مشبُـوهة خلال المرحلة السابقة، وهم ممنوعون من السّفر في انتظار محاسبتهم. كما أن لجنة المصادَرة التي شُـكّلت في شهر مارس 2011، قد صادرت ما لا يقِـل عن 320 شركة و233 عقارا و367 حسابا مصرفيا، إلى جانب مُـمتلكات أخرى. ونظرا للثِّـقل المالي الذي يتمتّع به هؤلاء والتّـداعيات الخطيرة، لاستمرار هذه الوضعية على اقتصاد البلاد في مرحلة تشكُـو من الهشاشة، فقد اقترح البعض من الخبراء أن تُـعلِـن الحكومة نوْعا ممّـا وصِـف بـ "المصالحة المالية"، التي بمُـقتضاها يلتزِم هؤلاء بدفْـع خطايا مالية ضخمة، مقابل أن يستأنِـفوا أنشطتهم المالية والتجارية.

 

العدالة الإنتقالية.. نمطٌ حديث النشأة

من خلال ما سبق، يتبيّـن أن مسألة العدالة الإنتقالية، ليست مجرّد شعار فرضته أجواء الثورة، بقدر ما هي مدْخـل اساسي لإعادة هيكلة الحياة العامة، لضَـمان انتقالٍ ديمقراطي أقلّ توترا وكلفة ومن هذا المنطلق، يبدو أن الدول العربية التي تمُـر بهذا الإنتقال، مثل تونس ومصر وليبيا، لم تتهيّـأ فيها الظروف لتحقيق مُـختلف مراحل ومكوِّنات هذا النَّـمط من العدالة. هذا النمط الذي لا يزال حديث النَّـشأة ويتأثر كثيرا بالواقع السياسي والإجتماعي والثقافي لكل بلد على حدة.       

 

صلاح الدين الجورشي