رفضا لترّهات تلك الكذبة الكبرى المعروفة "بالإعلام المستقل"، والتي تؤثر بشكل عميق في مجريات العلاقات الدولية، والأوضاع الداخلية لمختلف الدول عبر العالم، لا يوجد حسب اعتقادي إعلام مستقل بقدر ما توجد مصالح مستقلة؛ تلك المصالح التي يتصارع أصحابها عبر منابر إعلامية متعددة تدور كلها في فلك جهة سياسية، أو أمنية، وفي أحسن الأحوال قوة مالية يعود إليها فضل حياة هذه المؤسسة الإعلامية أو تلك.

من خلال هذه الفرضية الشخصية يتجلى حجم الخطر الذي يحيطه الإعلام بمستقبل الشعوب، يشكل حاضرها ويصنع مستقبلها، وفق لعبة المصالح، وعبر تسويق مضلل لأوهام التعددية والاستقلالية الإعلامية. بينما حقيقة الخطاب الإعلامي، على الرغم من تنوع مصادره غالبا ما يكون معبرا عن مصالح القوى المجتمعية والسياسية والنخب الاقتصادية والعسكرية المتنافسة حول المقدرات المادية داخل بلد معين، أو في بلدين متصارعين.

تظهر تجليات التأثير السالب للإعلام في السياسات الخارجية، والعلاقات الثنائية بين الدول من خلال معضلة العلاقات المغربية-الجزائرية، التي بات من الواضح أنها تدور في أفلاك المنابر الإعلامية للبلدين الجارين، التي لم تستطع الخروج من ذهنية العداء والعداء المضاد، وتتعامل من منطلق فرضية ثابتة تكاد تكون صنما إعلاميا، تفيد أن المغرب والجزائر لا يمكن أن يكونا إلا في وضع العداء والصدام. وأصبح مؤكدا أن المغرب والجزائر الذين يجمعهما الكثير ويؤهلهما إلى علاقات أكثر عمقا وثمارا على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وان التعاون بينهما ممكن وبشكل سريع إذا تركتهما لوبيات الإعلام ولم توتر علاقاتهما الثنائية، بشكل يكاد يصبح خطا تحريريا ثابتا.

عند مطالعتي لما تبثه أجهزة الإعلام المغربية والجزائرية، أصاب بالرعب وترتعد فرائصي وأجدني أمام صحفيين شداد غلاظ،حانقين باستمرار، وماسكين بالرشاشات بدل الأقلام، ولا صوت يعلو فوق صوت التصعيد والتحريض والنبش في ملفات التاريخ والحروب الماضية، حيث تغيب الحكمة والدبلوماسية، وتعمد التأثير السالب على صناع القرار، وشحن الجمهور من الشعبين الشقيقين، بكل أحاسيس الكراهية المتبادلة، وتعبيد الطريق أمام الفتنة. وفي أحايين كثيرة اتهم محركات البحث على الانترنت، بإحالتي إلى مقالات وريبورتاجات تتعلق بالصراع الأزلي بين الفلسطينيين والكيان الفيروسي في منطقة الشرق الأوسط المسمى إسرائيل، بدل إحالتي على مواقع بلدين شقيين مثل المغرب أو الجزائر.

صحيح أن البلدين الشقيقين بينهما تاريخ طويل من الجفاء والعداء، وصل إلى حد حرب الرمال سنة 1963، لكن إعادة تناول موضوع حرب الرمال في إعلام البلدين، في ظل الظروف الإقليمية والدولية الحالية التي تفرض التنسيق والتعاون في جميع المجالات، يأتي لأسباب غير إعلامية تروم صب الزيت على نيران العلاقات الثنائية بين البلدين، ولا تجد من يقول أن على المغرب والجزائر الاستفادة من تاريخ الدول الغربية التي تتحد وتتكاثف اقتصاديا وأمنيا دون اكتراث لملفات التاريخ التي تلم العديد من الحروب الكونية والأحقاد التاريخية بين القوى الغربية.

وصحيح أن البلدين الجارين بينهما خلاف حاد وتنافر في وجهات النظر بخصوص قضية الصحراء، لكن لا تجد من يقول أن قضية الصحراء أصبحت لعبة أممية كبرى تدور في فلك مصالح القوى العظمى الجيوسياسية، وفي أدنى مستوياتها أنها قضية تتعلق بالخيارات المتخذة من طرف سكان الأقاليم الصحراوية المخيرين بين المسار الاممي وخيار الاستفتاء المستحيل، أو مسار إقليمي يعرض مبادرة واقعية تروم منح الأقاليم الصحراوية حكما ذاتيا يديرون من خلاله أمورهم السياسية والاقتصادية؛ ولا شك أن الصحراويين يدركون ما ينهي معاناتهم ويصلح مستقبلهم. وأتمنى أن تتوقف أجهزة الإعلام في البلدين عن تويتر العلاقات الثنائية، بحجة الدفاع عن الصحراء والصحراويين، فأهل مكة أدرى بشعابها.

يشجعني كل ما سبق على القول بأن الأدوار السالبة التي تقوم بها اليوم جل أجهزة الإعلام المغربية والجزائرية على حد السواء، شبيهة بحملة التحريض والكراهية التي قادتها أجهزة الإعلام الأميركية لصالح خدمة الأغراض الخاصة للرئيس الأميركي تيودور روزفلت فيما يتعلق بتغطية حادثة غرق البارجة "مين" في ميناء هافانا في ظروف كانت بعيدة في قدرة الصحف على التحقق منها في ذلك الحين. أو تغطيات حوادث خليج تونكين الشهيرة التي استغلها الرئيس الأسبق ليندون جونسون بصورة مماثلة لينتزع من الكونغرس قرارا يمنحه سلطة جارفة لتوريط الأمة الأميركية في حرب فيتنام، بعد استغلال مفرط لأجهزة الإعلام المؤثرة؛ أو الأدوار التي لعبتها أجهزة الإعلام في حرب الخليج الثانية،وما يسمى بالحرب على الإرهاب، وكيف استخدمت اللوبيات المالية والعسكرية في الولايات المتحدة الأميركية أجهزة الإعلام الدولي بهدف حشد الرأي العام العالمي ضد العراق وروجت لقرار الحرب عبر استخدام الدعاية الصريحة والدعاية الرمادية التي كانت بارزة في هذه الحرب ومنها حملات التلويث الإعلامية التي صاغتها مؤسسات الدعاية بشكل عام.

أنا لا ألوم الإعلاميين المغاربة، أو الجزائريين على خيار التخندق كقوة دفاع أمامية هجومية وشرسة لصالح رغبات ومصالح قوى المال والسياسة والعسكر في البلدين، فتلك خياراتهم وهم بلا شك أحرار في اتخاذها، لكن قد أطالبهم بالتوبة الإعلامية وتحويل محطات أنظارهم إلى جوانب عديدة بديهية وأكثر ايجابية عند تغطية العلاقات الثنائية بين البلدين الجارين المغرب والجزائر، بدل التركيز المنهج على المشاكل أو اختلاقها، ومحاولة تقمص أدبيات الموضوعية والحياد وتنويع الخطاب الإعلامي الذي دمغ بالحقد والجفاء وأجواء الحرب منذ سنوات عديدة. لأنه كما قال والتر ليبمان "ليست الأخبار والحقيقة نفس الشيء" فهل من نقاش إعلامي في هذا الاتجاه؟ ألم يحن الوقت بعد إلى بحث منهجية جديدة في التعاطي الإعلامي مع العلاقات المغربية- الجزائرية؟ أليس حريا بالصحفيين المغاربة والجزائريين لعب أدوار جديدة تمتن جسور التقارب الثقافي والسياسي والأمني، بدل صناعة الحروب الإعلامية وما تحمله من مخاطر على مستقبل ومصالح البلدين؟

 

أحمد سالم أعمر حداد

صحفي رقمي وباحث مغربي متخصص في تحليل الصراع السياسي