من يَــعتمد التاريخَ معيارَ العلاقات السياسية يكتشف أن الصراعَ الفارسي/الغربي هو استثناءٌ وأن التقاءَ المصالح بينهما هو القاعدة. فمنذ بروز الشيعية الصَفويّــــة في بلاد فارس سنةَ 1501، كانت الدولةُ الفارسية الحليفَ الخلفيَّ للغرب الأوروبي ضدّ العثمانيين، ثم أصبحت دولةُ إيران البهلويّـــة الحليفَ الأماميَّ للغرب الأميركي ضدّ الاتحاد السوفياتي وما كانت فترةُ الثورةِ الخمينــــيّـــة (1979 ـــ 2013) سوى فاصلٍ تـــأهّـــلَت فيه إيران عربياً وثوروياً للعبِ دورٍ إسلامي وأسيوي وعالمي بعباءةٍ جديدةٍ تعطّل تشكيك العرب، وتحديداً السـنّــة، بأصالةِ إسلامها. وها هي إيران الخمينيةُ تَـــدخل اليوم السياسةَ الغربية من دون الحُــلّة الغربية التي كان يرتديها الشاه محمد رضا بهلوي. إن الشكلَ والأسلوبَ هما جُــزءٌ أساسي في الفكر الفارسي القديم من زرادشت مروراً بابن سينا وصولاً إلى الشيرازي والطوسي والتبريزي.

 

انجازات مثار جدل

 

أثناء تأهّـــــلها "الثوروي" اتبعت إيران سياسةً متطرفة وتوسعــيّــة واحتكمت إلى العنف بكل تسمياته، فأزعجت محيطَها والعالم. اتهما الغربُ بممارسةِ الارهاب، ففرض عليها عقوباتٍ اقتصاديةً ونفطية وحصاراً تجارياً، ووضعتها واشنطن على رأس محور الشر رغم ذلك، حققت إيران إنجازاتٍ مَـــثارَ جدلٍ مثل: إحياءُ المشروع الشيعي الفارسي، اختراقُ العالم العربي، بلوغُ البحر المتوسط، إنشاءُ الصناعات العسكرية، امتلاكُ الطاقة النووية، توسيعُ مداها الشيعي الحيوي إلى العراق وسوريا ولبنان، تبــنّي القضيةَ الفلسطينية من منظارٍ مقاوِم، وإنشاءُ رابطة دول بحر قزوين. انطلاقاً من هذه "الانجازات" ومن موقعِ القوةِ الإقليمية المستقلَّة طرحت إيرانُ الخمينية نفسَها محاوراً فشريكاً في صناعة الشرق الأوسط الكبير (بما فيه العالم العربي)، الأمر الذي أخفقت تركيا في تحقيقه.

 

بغض النظر عن الوسائل التي اتَّـــبعتها، نجحت إيران في تكوين مِحفظةِ أوراقٍ سياسية وجيو استراتيجية عربياً وإسلامياً وآسيوياً. هكذا بَـــدت مفاوِضاً لا بد منه مع أميركا في حربي أفغانستان والعراق، مع روسيا وتركيا في مصيرِ الجمهورياتِ الآسيوية الخارجةِ من الاتحاد السوفياتي، مع الدول العربية في حلِّ (أو عدمِ حلّ) القضيةِ الفلسطينية والثورات العربية والصراع الإسلامي، مع لبنان في مواضيعِ الجنوب وسلاحِ حزب الله والمحكمةِ الدولية، ومع أوروبا وأسيا في تنظيم حركةِ النفط من بحر قزوين وعبرَ مضيقِ هرمز، ومع المجتمع الدولي عموماً في قضايا وقف الارهاب واحترام حقوق الانسان والديمقراطية.

 

ولوج الشرعية الدولية

 

طَــوال أربعٍ وثلاثين سنةً لعِبت إيران مختلَف هذه الأدوار بمواجهةِ المجتمع الدولي. أما اليوم، فــتُــحوز على فرصةِ أن تلعبَ دورَها ـــ إيجابياً هذه المرة ـــ بالتفاهمِ مع المجتمعِ الدولي، وفي طليعته الولايات المتحدة. وبالتالي، يُــفترض أن يكون اتفاقُ جنيف (24 تشرين الثاني الماضي) نقطةَ تحــوّلٍ في إيران ولإيران ولمحيطِها، كما يُــفترض أن يكون مدخلاً لإقامة توازنِ قُوى جديدٍ في الشرق الأوسط يرتكز على تعاونِ دول المِنطقة في إطارٍ حضاري بعيداً عن استئثار المحاور، وعلى العدالة والتعددية وحقِّ الشعوب في تقرير مصيرها، إنْ كان حقُّ الشعب الفلسطيني تجاه إسرائيل، أو حقُّ الشعوب الثائرة على أنظمتها أو المصدومةِ من ثوراتها، أو حقُّ الشعوبِ الخائفةِ على خصوصيَّـــتها، ومن بينها المسيحيون والدروز والأكراد.

 

ما تــمّ التوقيعُ عليه في جنيف بين إيران والدولِ الكبرى (5+1)، ليس سوى الاتفاقِ التقنيّ المحصورِ بالملف النووي، أما الاتفاق السياسي الذي يشمل دورَ إيران و"تأهّــلَها السلمي" وسلوكَها في المنطقة، فهو مشروعٌ لا تزال إيران والولاياتُ المتحدة الأميركية (1+1) تتفاوضان بشأنه في أجواء منشرِحة بدأت المفاوضاتُ السرية بين واشنطن وطهران قبيل إنهاء الانسحاب الأميركي من العراق نهاية سنة 2011، تواصلت مع قرار الانسحاب من أفغانستان أيضاً المحدَّد نهاية سنة 2014، تعـــزّزت مع فشلِ الثورةِ السورية وصعود تيارات القاعدة فيها سنةَ 2012، تَــثــبَّتت مع تعــثّــرِ تجربةِ الإخوان المسلمين في مصر وتركيا والمغرب العربي سنةَ 2013، وتُــوِّجت مع التفاهم الأميركي الروسي في 14 أيلول الماضي.

 

لذا، خلافاً لما يَــظـــنّـــه البعضُ، ليس اتفاقُ جنيف ثمرةَ انتخابِ الرئيس حسن روحاني (17 حزيران 2013)، بل إن انتخابَ روحاني هو ثمرةُ تقدّم المفاوضات الإيرانية الأميركية التي كانت تحتاج إلى رئيسٍ مثل روحاني، المعروفِ بانفتاحه، لكي يُـــخَـــرِّج الاتفاقَ التقني ويواكبَ مشروعَ الاتفاقِ السياسي اللذين يرعاهما مرشِدُ الثورة آيــةُ الله خامنئي ما جرى في جنيف (5+1) هو أهم اتفاق إيراني/غربي، لكنه ليس التفاهمَ الأولَ حول الملف النووي، فسبق لإيران أن وقّـــعت سنة 2003 مع الغرب، عبر وكالة الطاقة النووية في فيينا، معاهدةَ الحدِّ من انتشار الأسلحة النووية، لكن سرعان ما اكتشفت واشنطن أن إيران تملِك مشروعاً نووياً آخَـــــرَ سرياً، "نـــــاتَــــنْــز"، فسقط الاتفاق.

 

عا السكين يا جنيف

 

لذلك خضع الاتفاقُ المرحليّ في جنيف لمهلة ستة أشهر؛ فبخلالِ هذه الفترة لن تَـمتحنَ مجموعةُ ألــــ (5+1) مدى التزامِ إيران ببنودِ الاتفاق التقنيّ فقط، بل سيختبر الغربُ عموماً، وأميركا تحديداً، مدى اتّـــباعِ إيران نهجاً سياسياً داخلياً جديداً (الديمقراطية وحقوق الانسان)، ومدى مقاربتِها بشكل بنّـــاء وسلميّ قضايا الشرقِ الأوسط وصراعاتِه. إذا نجحت إيران في المرحلة التجريبية يصبحُ اتفاقُ جنيف المرحلي اتفاقاً نهائياً، فـتـتشجع أميركا، وهي ليست بحاجةٍ إلى تشجيع، فتستكملُ المفاوضات السياسية مع طهران حيال قضايا المنطقة.

 

الخشيةُ هنا أن تلجأَ إيران إلى استنزافِ الديبلوماسية الأميركية من خلال تقسيطِ الملفات وفصلِــها عِوض الاتفاقِ على كل قضايا المنطقة حزمةً واحدة. فإيران أيضاً تريد اختبارَ النيات الأميركية.

اللافتُ أن فترةَ الستةِ أشهر البادئةَ مليئةٌ بالاستحقاقات والتطورات المعنية إيران بها. على صعيد الاستحقاقات الدستورية يُــفترض أن تحصُلَ الانتخاباتُ الرئاسية والنيابية في مِصر (بين شباط وأذار) والرئاسيةُ في لبنان (أيــار) وفي سوريا (حزيران) والنيابيةُ في العراق (بين أذار ونيسان) وفي أفغانستان (نيسان). وعلى صعيدِ الاستحقاقات السياسية والعسكرية يُــنتظر انعقادُ مؤتمرِ "جنيف 2" من أجل سوريا، وتنفيذُ خريطة الطريق بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. أما الاستحقاق الأهم بخلال هذه الأشهر الستة، فهي ولادة يسوعُ. فكيف ستتصرف إيرانُ حيال الحدث السماوي؟ هل سترسل إليه هذه المرة أيضاً الـمَجوسَ حاملين ذهباً ولُــبانـــاً ومــــرّاً؟ سنراقب.

 

اتفاق مصالح لا مبادئ

 

في هذا الوقت، الإدارةُ الأميركية مصمِّــمةٌ في هذه "الفترة الانتقالية" على إقناعِ المملكةِ العربية السعودية بالانضمام ــــ لا الالتحاق ــــ إلى المسيرةِ الجديدة لتكونَ شريكاً كاملَ العضوية في مجلس رعاية الشرق الأوسط الجديد. فواشنطن وإن كانت تعتبر نفسَها حقّــقت إنجازاً بتطويع إيران (إنجازٌ فيه نظر)، فهي حريصةٌ على الاحتفاظِ بالتحالفِ الاستراتيجي بينها وبين السعودية نظراً لصدقِ العائلةِ المالكة مع مختلف الإدارات الأميركية على مدى سبعين عاماً رغم الانحيازِ الأميركي الدائم لإسرائيل. غير أن تعويمَ الوِدِّ السعودي الأميركي قد يستدعي تغييراً في بعضِ مراكز القرار في كل من واشنطن والرياض.

 

الحِرصُ نفسُه تُـبديه أميركا تجاه إسرائيل، لكن إقناعَ تل أبيب يَـبقى أقلَّ مشقةٍ من اقناعِ السعودية؛ ذلك أن ما تحقّــق في جنيف الروسي/الأميركي (14 أيلول) وفي جنيف الإيراني/الدولي (24 تشرين الثاني)، يَــصُــبّ مباشرةً في مصلحةِ إسرائيل رغم احتجاجِ قادةِ الدولة اليهودية، فــهُم يُــضخّمون رفضَهم ليقــبُـــضوا تعويضاً مضخَّماً في ملفات أخرى. أما السعودية فتشعر بأنها "الحليفُ المخدوع" وبأن أوباما جعلَ إيران الدولةَ الأولى في الحل، بعدما كان يعتبرها المصدرَ الأول للمشاكل. وأساساً، ما كان كل ذلك ليحدثَ لولا إصرار باراك أوباما على استعمالِ "الطاقة الديبلوماسية" لمعالجةِ قضايا العالم، ولو على حساب الحرية والديمقراطية.

 

ما لم يَـحدُث تطورّ راديكاليّ داخل النظام، وهو أمرٌ مستبعد، تتجه إيرانُ اليومَ لاحترامِ الاتفاق الجديد، إذ أنها لا تستطيع من جهةٍ تحمّلَ العقوبات الاقتصادية المتصاعدة، ولا تريد من جهة ثانية الذَهابَ بتخصيبِ الأورانيوم حــدَّ بلوغِ القدرةِ على انتاج قنبلة نووية نظراً لانعكاساتِه البيئية وتكاليفِه المالية وأخطارِه العسكرية في الحقيقة، تنازلت إيران عن شيء لا تملِكه (القنبلة النووية) واحتفظت بما تريده (الطاقة النووية)، فرفعت عنها عقوباتٍ تُــهلِكها، وأبعدت عنها تهديداً عسكرياً تخشاه، ودخلت كالعروس المغفورةِ خطايا عزوبــيَّــتِــها إلى "قفص" المجتمع الدولي.

 

ما حصل في جنيف هو اتفاقُ مصالحَ لا اتفاقَ مبادئ. وهو أقرب إلى اتفاقاتِ أوسلو (القابلةِ للتعديل) منه إلى معاهدة "كمب دايفيد" (المبرَمة للتنفيذ). في كل الأحوال، شعوبُ المِنطقة تحكم عليه انطلاقاً من انعكاسِه على استقرارِ الشرق الأوسط واختصارِ عذابات الشعوب العربية ولجمِ الصراع السني الشيعي. أما نحن اللبنانيين الذين رحّــبنا به فوراً، فــنُــبقي تأييدنَــــا قيدَ المراجعة بانتظارِ معرفة نوعيةِ تأثير التفاهمِ الأميركي/الإيراني على مصير لبنان، بدءاً من استحقاق رئاسة الجمهورية وصولاً إلى استحقاق تقاعد سلاح حزب الله. فإذا كان القرار 1701 سنة 2006 عَــطّــل نصفَ سلاحِ حزب الله، فهل يُـــعطِّل اتفاقُ جنيف اليومَ نصفَــه الآخر؟

 

سجعان القزي