من زاوية المواطنة التي ترفض الحياد وتفرض الانخراط في حركية المجتمع ومعارك الوطن المصيرية ، ومن موقع المهني الممارس على مدى ثلاثة عقود ونيف ، أسمح لنفسي بإبداء الملاحظات التالية في موضوع النقاش المثار حول لغة التدريس في المدرسة العمومية :

 

1 ـ إن طرح مشكلة التعليم على أنها مرتبطة بلغة التدريس هو طرح مغلوط من حيث كونه يصرف الاهتمام والنقاش عن عمق الأزمة وأسبابها . بل يساهم في تمييع النقاش وتعويم الحوار ، وإشغال الرأي بقضايا هامشية لن تزيد فهمه لمشاكل التعليم إلا ضبابية وتعتيما .

 

2 ـ إن أزمة المنظومة التعليمية مطروحة بحدة في المدرسة العمومية ، ومشكل اللغة غير مطروح بالنسبة لتلاميذ التعليم الخصوصي الذين التحقوا به منذ المراحل الابتدائية ؛ الأمر الذي يقتضي الوقوف عند أوجه الاختلالات ومستوياتها . فالأطر التربوية العاملة بالمؤسسات العمومية هي نفسها أو غالبيتها العاملة في المؤسسات التعليمية الخصوصية .

 

3 ـ إن ضعف مستوى التلاميذ اللغوي هو نتيجة وليس سببا . ومعالجة المشكل اللغوي لا ينفصل عن التصدي لمشاكل التعليم البنيوية . فاللغة لم تكن يوما عائقا في تعلمها وتوظيفها ، ولا يتطلب تعلمها زمنا طويلا بدليل أن الطلبة المغاربة الذين اختاروا متابعة دراستهم في روسيا أو أوكرانيا يتعلمون لغات غريبة عنهم في رسمها ونطقها في زمن قياسي لا يتعدى شهورا معدودة ، بل لغة العلم والتخصصات الدقيقة وليست مجرد لغة التخاطب اليومي . بينما اللغة العربية واللغة الفرنسية التي يدرسها التلاميذ في المدرسة العمومية ، من مرحلة الابتدائي إلى نهاية الثانوي ، كلغة في حد ذاتها ، وكأداة لدراسة المواد العلمية والفنية ، يظل مستوى التلاميذ ضعيفا ورصيدهم اللغوي محدودا . وهذا الضعف تجسده كتاباتهم كما تجسده طبيعة تفاعلهم ومشاركتهم في بناء الدروس ومدى استيعابهم لمضامينها . فكيف لنفس الطلبة المغاربة الذين ظهر فشلهم اللغوي في المدرسة المغربية يتفوقون في تعلم اللغة الغريبة ( الروسية ، الأوكرانية) كلغة التواصل والبحث العلمي . من هنا يتأكد أن مشكل تعلم اللغة وإتقانها لا يكمن في طبيعة اللغة وخصوصياتها الفونيطيقية والسيميائية ، بل في المناهج التعليمية .

 

4 ـ إن فشل المنظومة التعليمية كان نتيجة حتمية لسياسية رسمية نهجتها الدولة في إطار احتواء المجتمع وتطويق حراكه السياسي عبر اعتماد برامج تعليمية ومناهج تربوية ذات محتوى إيديولوجي وأهداف سياسوية تروم ضرب الحس النقدي ونخر عزيمة التحرر من الاستبداد . فالمدرسة ظلت وظيفتها محددة في إعادة إنتاج ثقافة الهيمنة والاستبداد وتكريس قيم الخضوع والخنوع وضرب الحس الوطني الذي تشبع به جيل الاستقلال . فالأجيال التي ناضلت من أجل الحرية والديمقراطية كلها تشبعت بقيم المواطنة داخل المدرسة العمومية . وإصلاح المنظومة التعليمية لا يتوقف على لغة التدريس وليست من مداخله الرئيسية . فلا بد إذن ، من مناظرة وطنية لتحديد مواصفات الشخصية المغربية المطلوب تكوينها في المدى المتوسط والبعيد ، ومن ثم وضع البرامج والمناهج التي تحقق الأهداف وتخدمها .

 

5 ـ إن الرغبة الذاتية أساس التعلم والتعليم والمحرض عليهما . وكلما كانت الرغبة ذاتية كان ملكة التعلم أقوى وبذل التلميذ قصارى جهده للارتقاء بمستواه أو تدارك قصوره . ومدارسنا العمومية لا تقوي الرغبة في التعلم بل تغتالها بشتى الأساليب : أ ـ لم تعد المدرسة بوابة للترقي الاجتماعي رغم الحاجة الكبيرة للأطر من مختلف المستويات . ب ـ لم يعد النجاح خاضعا لمقياس الاستحقاق ، بقدر ما تفرض نِسَبَه الخريطة المدرسية ما جعل الأقسام تجمعات بشرية ليس بينها ناظم معرفي .ج ـ الاعتماد على الوسائل التعليمية التقليدية في الوقت الذي اعتاد غالبية التلاميذ على التعامل مع الوسائط الرقمية . د ـ اعتماد طريقة الحشو المعرفي وخنق روح الإبداع والابتكار . برمجة مواد دراسية تثقل كاهل التلاميذ أكثر مما تنمي مداركهم وتكسبهم كفايات ترقى بمستواهم المعرفي .

 

6 ـ إذا كانت اللغة العربية ضحية المنظومة التعليمية فلا ينبغي التضحية بها للتغطية على إفلاس المدرسة العمومية وإدامته . وتحميل اللغة تبعات الإفلاس بهدف تبرير التخلي عنها لفائدة الدارجة هو جريمة نكراء في حق الوطن والشعب والتراث . حتى لو افترضنا أن اللغة غدت عائقا ، فهذا يحرض على تذليل العائق بتغيير أسلوب التعليم وأهدافه . فهل كلما واجهتنا مشكلة نتردى إلى ما هو أدنى وأعرّ ؟ منطق الأشياء يفرض التحدي والمجابهة . ولا توجد لغة تستعصي على التطويع والتطوير . فاللغة تظل في جميع الحالات وسيلة للتعليم والمعرفة ، ولا يمكن التضحية بالهدف من أجل الوسيلة .

 

7 ـ استعمال الدارجة في التعليم ستواجهه ، قبل كل شيء ، موانع أخلاقية لا تسمح بنطق كلمات أو عبارات لدلالتها القدحية وإحالاتها الضاربة في اللاشعور الجمعي ، ما سيفسد التواصل بين المدرس والتلاميذ بخلاف اللغة العربية أو غيرها من لغات التدريس .