تاريخيا فان المذهب الشيعي كان قد أقيم على أساس تكريس الشعور بـ"المظلومية". لقد تم هدر فرصة مشاركتهم في الحكم في العصر العباسي الذي ابتدأ من لحظة الانتصار لآل البيت لكي يحتكر بنو العباس الحكم، من دون العرب والعجم الذين كان يمثلهم ابو مسلم الخراساني عسكريا وآل برمك اقتصاديا حاول المأمون من جهته أن يعيد إلى الميزان توازنه النظري من خلال تعيين الامام علي بن موسى الرضا وهو الامام الثامن لدى للشيعة الاثني عشرية وليا للعهد، غير أن ذلك الامام كان قد خذل الخليفة حين مات فجأة. وقيل أنه مات مسموما، وهو أمر مختلف عليه.

 

ومع ذلك فان الفقه الشيعي لم يشجع أتباعه على القيام بأي نوع من المشاركة السياسية. كانت السياسة بالنسبة لعدد كبير من فقهاء الشيعة خطا أحمر. حتى أن الكثيرين منهم في العهود العراقية القريبة عدوا العمل في الحكومة نوعا غير مستحب من العمل لذلك فقد دأب الشيعة على العمل في التجارة في انتظار اللحظة التي يظهر فيها المهدي ليبني دولتهم التي هي بالنسبة لهم دولة الاسلام الصحيح، وكان دعاؤهم اليومي ينتهي بجملة واحدة تقول "عجل الله في فرجه" وهم يقصدون الإمام الغائب الذي سيملأ حضوره الدنيا عدلا.

 

وإذا ما كان الامام الخميني قد اخترع في ايران مبدأ ولاية الفقيه لكي يكون تعويضا مؤقتا عن غياب الامام الحجة ونجح في بناء جمهوريته الاسلامية، فان الكثير من العراقيين لا يؤمنون بذلك المبدأ، لا لشيء إلا لأنه يضع مشروع المظلومية على الرف ويحل محلها مشروع الولاء للفقيه العادل، الذي يسعى الى قيام دولة العدل في ظل استمرار المهدي في غيابه لقد فضل العراقيون أن يكونوا رهائن لغيب لا يعرفون شيئا من اسراره على أن يسلموا امورهم لرجل دين مغامر قد يخرج بهم بعيدا عن أصول المذهب.

 

ولكن ما حدث بعد الاحتلال الاميركي عام 2003 كان قد أسس لمنطق سياسي مختلف لقد جلب المحتل بمعيته مجموعة من السياسيين الشيعة الذي ارتضوا أن تُحتل بلادهم ويُذل شعبهم لقاء تسهيل وصولهم إلى السلطة، باعتبارهم ممثلين لأغلبية مذهبية في بلد لم تكن دولته تقوم على التمييز بين مواطنيه على أساس الانتماء الديني أو العرقي.

 

ففي ما مضى من العهود الجمهورية والملكية على حد سواء كان العراقيون يعانون من انفصال السلطة عن الشعب، لاسباب لا علاقة لها بالبعد الطائفي. فلم يُحرم أحد من التعليم أو التوظيف أوالسفر أو السكن أو العمل في المجالات الحرة أو التجول في مدينته أو بلده كله بسبب مذهبه أو ديانته أو قوميته.

 

كانت هناك حدود دنيا من المواطنة تمتع بها العراقيون من دون تمييز، في ظل انظمة سياسية تميزت طريقتها في النظر إلى السلطة بشعور تملكي مبالغ فيه اما الان وبعد ثماني سنوات متلاحقة من حكم حزب شيعي متطرف فقد أزيلت تلك الحدود، ولم تعد المواطنة مقياسا ينظر إله العراقيون باحترام. صار الولاء لذلك الاحزاب والاحزاب الدينية المؤتلفة معه هو المقياس. وهو السبب الذي يستدعي شعور العراقيين بخطر اندثار مواطنتهم.

 

الشيعة يشعرون بذلك الخطر أكثر من سواهم، ذلك لان هناك جهات صارت تستعملهم مطية من أجل استمرارها في الحكم، في ظل نزعة طائفية تصر على أن يفقد الشيعة العرب في العراق هويتهم الوطنية لقد صار واضحا للعراقيين بعد كل هذه السنوات العجاف من الاحتلال ومن السيادة الصورية الملحقة بالمحتل الاميركي وبإيران أن حكما طائفيا لا يمكنه في اي حال من الأحوال أن يبني دولة المواطنة. ذلك لان دولة حديثة لا يمكن أن تُبنى من قبل جماعات لا ترى في المواطنة حقا مشاعا لكل العراقيين.

 

فاروق يوسف